فُهمت التعددية الإعلامية في معظم المجمعات العربية، على أنها قيام أشخاص أو مجموعات ببناء مؤسسات إعلامية، لابد أن تخرج على كل صيغ الترابط، والتوافق والتراضي الاجتماعي، وتُغرق أوطانها في لُجة صراعات فئوية، تؤجج عوامل التفجير الاجتماعي، وتستخدم سياسات تمزيقية لمجتمعاتها، وتتطاول على مبادئها وثوابتها، ملغية وجودها من الخريطة الجغرافية.
هذه السلع الرديئة والهابطة لا تحتاج إلى دليل، فتلكم شبكات فضائية ذات طبيعة عشائرية، وعرقية، وطائفية، ومذهبية، أهدافها انقسام المجتمع الواحد، وزرع الفرقة والتجزئة بين أفراده، وتفتيت تجانسهم، والتغني بإنجازات الوهم!! وحمل راية النضال الوطني!! وتكريس التشرذم والتفكك، وتسويق المفاهيم والقيم السلبية في المجتمع، وطغيان ثقافة الإعلام الاستهلاكي.
لقد رضخت تلك الفضائيات لضغوط الممولين لها، فلم تخرج عن الخطوط المحددة لأهدافها وسيطرت عليها أحادية الرأي والرؤية، وفقدت ثقة المتلقين في صدق ما تقدمه من معلومات، وتلاعبت بالعملية وفهمت بالتعددية الإعلامية على أنها تحلل من الأصول الفكرية والدينية للمجتمعات العربية والإسلامية، وتخلي عن المعايير والقيم المرتبطة بمهنة الإعلام، وإقصاء أي صوت مع الحق، وتصادم مع مؤسسات المجتمع باستخدام التزييف والتضليل، وإذكاء النعرات الفئوية، مع أن أبسط مفهوم للتعددية الإعلامية - كما أرى - هو: ظهور مؤسسات إعلامية متعددة، لا تقف خلفها إملاءات سياسية أو اجتماعية مقطوعة الصلة عن الواقع، ويتوافر لها قائمون بالاتصال معتدلون، لا يزاولون عملية إخلاء قسرية ضد أبناء المجتمع الواحد، تؤدي إلى فتنة داخلية، بدورها إلى كوارث شاملة، بفعل ممولين توافقوا على بناء منظومة إعلامية، توفر الفرص للتطاول على المبادئ والثوابت المجتمعية، وتؤسس بيئة تقرع طبول حرب أهلية.
وفي هذا الصدد أطل الباحث السعودي ياسر بن علي الشهري ليضيف رؤى جديدة للتعددية في الإعلام، ضمن كتابه الموسوم (تعددية الإعلام)، فهي من وجهة نظره تعني (التناقض والازدواج)، ورأى أن (خطورة حلم التعددية تكمن في أن الإعلامي هنا، قد يقع في أمر متناقض أو منافٍ لما يؤمن به ويعتقده، فيخسر إيمانه، وتخسر البشرية من يقول الحق).
وماذا عن الإعلامي المحاسب على كلماته، والمدعو من ربه إلى عدم تتبع ما ليس به علم؟ أجاب عن هذا السؤال الباحث الشهري بقوله: (إن هذا الإعلامي لا يمكن أن يزاوج بين الحق والباطل، إلا أن يكون جاهلاً بالحق، وعندئذٍ فهو ليس جديراً بإعلام الناس وإخبارهم، حتى يرفع الجهل عن نفسه).
من الخطورة أن يصبح مفهوم التعددية الإعلامية اليوم، تضليل كل الفئات الاجتماعية في المجتمع الواحد وتفتيتها، حتى أصبحت لهذه التعددية مواسم ازدهار، فغاب الأمن الإعلامي، وظهرت سلطة إعلاميين، يبحثون عن فرص للوجود والعمل، ويملون شروطهم على صناعة الإعلام، ويفتحون الطريق لمرور العوامل المؤدية إلى زعزعة الاستقرار، وفقدان الحرية والأمن.
(التعددية الإعلامية) ينبغي أن تستفيد من حق حرية الرأي والتعبير، بما يتفق مع المسؤولية الاجتماعية للإعلام، ولا تضحي بها تنفيذاً لاستحقاقات ذات طبيعة فئوية أو طائفية همها الوحيد تمجيد نفسها بنفسها.
فاكس : 014543856