أشعر بحالة من الاطمئنان عندما أجد أن أحد العلماء المتشددين ثاب إلى وعيه، وطرح عنه جانباً خطاب التصعيد، والتلاعب بعواطف الجماهير، وصار صوتاً أكثر اتزاناً وعقلانية وهدوءاً وقراءة للواقع واستشرافاً للمستقبل؛ فازداد قناعة بأن الإنسان الذي لا يتغير ولا يتطور هو الإنسان (الميت) عملياً، وان (الحي) لا يمكن إلا أن يتطور ويتغير. هذا ما أشعر به وأنا استمع إلى الدكتور سلمان العودة قبيل الإفطار من كل يوم. أشعر أن الرجل متفتح، صاحب أفق واسع، وثقافة موسوعية، يتعامل مع القضايا التي يطرحها، أو تطرح عليه، بروح (متسامحة)، وسطية، يتعمد أن يتلمس جاهداً مواطن التيسير فيبرزها، ويدرأ التشدد بالتخفيف على الناس، ويبتعد - ما أمكنه ذلك - عن ثقافة (الأحوط) التي قاسينا منها ومن مآلاتها الكثير.
ونحن في زمن أصبحنا فيه جزءاً من مجتمع عالمي أكبر. ما يصلح للأمس ليس بالضرورة أن يكون صالحاً لنا اليوم. والعالم الذي نعيش فيه أصبح يتقارب، يتفاعل مع بعضه البعض، حتى أصبحت أجزاؤه أكثر التصاقاً من ذي قبل. قوانينه، أنماطه، قيمه، تأثيراته، وحتى (أمراضه)، ليس بالإمكان أن نعيش في معزل عنها. والفقيه (المتنور) هو الذي يُجهد علمه وفكره لإيجاد عوامل مشتركة بيننا وبين الآخرين لتكون بمثابة جسر للتعايش مع مستجدات العصر. (المنع) ليس حلاً؛ ولن نجني منه إلا مزيداً من التكلس والتقوقع والعزلة.
ولا يستفزني إلا بعض طلبة العلم الذين لا يكترثون بالواقع، ولا بمتغيراته. فبعضهم لا يعنيهم هذا (العالم) أصلاً، وكأننا نعيش في كوكب لا علاقة له بكوكب الأرض. والبعض الآخر، ولأسباب محض أيديولوجية، يتعمدون مناكفته وتحديه، بل والإصرار على تكريس كراهيته وبغضه وازدرائه، ليس ذلك فحسب، وإنما يتعاملون معه بمنطق المنتصر (كذا) الذي يجب أن يَذلَ المهزوم، ويُمرغ أنفه في التراب؛ وهم لا يملكون من وسائل إذلاله إلا (مفاتيح التبن)؛ فليس إلا لغة خطابية عاطفية، وعنتريات مفبركة، عندما تُعملُ فيها آليات النقد والفحص والتمحيص، وتقيسها بمعايير العقلانية، لا تجد إلا (مواعين) فارغة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
وإذا كان اللون الأبيض يتضح بجلاء عند مقارنته باللون الأسود، فسأروي لكم في ما تبقى من المقال فتوى وردت في أحد مواقع المشايخ كبار السن على الإنترنت، الذي يقول طلابه عنه إنه (عالم)!؛ يجيب فيها عن سؤال (فيزيائي) طُرحَ على (فضيلته). يقول السؤال: (ما حكم نسبة المطر إلى أن ذلك ناتج عن تبخر البحار، ويتكون على أثرها السحاب، فيؤدي ذلك إلى هطول المطر، فهل هذا صحيح أم أن هذا يخالف سنن الله جل وعلا في الكون؟) فيجيب الشيخ بمنطق القطع والجزم بالقول: (ليس بصحيح. الله تعالى هو الذي ينشئ السحاب، وهو الذي يرسل الرياح وهو الذي يحمل ذلك السحاب بذلك المطر. ونحن لا نعرف من أين ذلك المطر؟ ومن أين ذلك الماء؟ وكيف ينزل في ذلك السحاب؟ نشاهد - مثلاً - أو يشاهد الطيارون، انهم يرتفعون فوق السحب مسافة رفيعة، وأن السحب تحتهم يكون لها برق ورعد ومطر ولا يحسون بنزول شيء من فوقها إليها، ولا يحسون برطوبة. إذا خرقت الطائرة تلك السحب لا تحس برطوبة، ولا ببلل يصيبها؛ مما يدل على أن الله تعالى هو الذي يخلق ذلك الماء في تلك السحب ويحملها إياه كما يشاء)!
هذه الفتوى لا تحتاج إلى تعليق. فقط قارن بين منطق وفكر وعلم وثقافة الدكتور العودة، وفتوى هذا الشيخ الذي يقولون إنه (عالم)؛ تطمئن إلى أن التنوير لدينا يسير في الاتجاه الصحيح، ولو أنه ببطء. إلى اللقاء.