كتابات الأخت الكريمة، الدكتورة أميمة الجلاهمة، في صحيفة الوطن الغراء كتابات موفقة مسددة. زادها الله توفيقاً وسداداً. ومن هذه الكتابات الموفقة المسددة مقالتها التي نشرت في تلك الصحيفة بتاريخ السابع من هذا الشهر المبارك...
... بعنوان (حرب العراق مهمة مستمدة من الله). وقد ذكرت فيها نشر الصحف تصريحات لسارة بالين التي اختيرت نائبة لمرشح الحزب الجمهوري للرئاسة الأمريكية في الانتخابات القادمة، وهي تصريحات توضح أنها ترى قيام ما قامت به دولة أمريكا من إرسال قواتها لاحتلال العراق عملاً صائباً وتأدية لمهمة مستمدة من الله. وعلقت الدكتور الكريمة، أميمة، على ذلك تعليقاً موفقاً مضمونه: علينا أن ننظر بدقة إلى ما يجري ويحاك لأمتنا لئلا ننجر إلى ما يحقق تطلعات أصولية صهيونية مسيحية هدامة تؤمن، كما تؤمن الصهيونية العالمية، بأن الله أمر بخراب العراق ودمار أهلها في آخر الزمان، وان هذا الزمان قد ازف.
ولقد دللت الدكتورة الكريمة، أميمة، على ذلك المضمون بما هو موجود في كتب الصهيونيين المسيحيين الدينية المتداولة، كما أشارت إلى أن مساندة قادة أمريكا للاحتلال الصهيوني في فلسطين نابعة من إيمان بأصول دينية مقدسة لديهم. وما ذكرته قول صائب سواء ما هو عن العراق أو ما هو عن فلسطين.
ومن الصدف أني قد نشرت في يوم الاثنين الماضي، أي بعد نشر الدكتورة أميمة مقالتها بيوم واحد، مقالة عنوانها (أهمية دور الدين لدى المتصهينين).
ومما أشرت إليه في هذه المقالة دور العامل الديني في دعم المتصهينين من قادة أمريكا للصهاينة كي يحتلوا فلسطين ويرسخوا احتلالهم لها. والمقالة تعقيب على رأي صديق عزيز رأى مبالغة فيما ذكرته في مقالة سابقة مكونة من حلقتين نشرتا في صحيفة الجزيرة من أن العامل الديني كان عاملاً مؤثراً في تحديد مجرى سياسة الدولة الأمريكية. وكان رأيه مبنياً على أساس أن تلك الدولة علمانية رسمياً.
ولعلّ مما يؤيد صواب ما ذكرته الدكتورة أميمة هو ما فعله عدد من الكتاب في هذا الموضوع. ومن هؤلاء الأستاذ منير العكش في كتابه حق التضحية بالآخر: أمريكا والإبادة الجماعية، وكتابه تلمود العم سام. وكنت قد نشرت عرضاً للكتاب الأول مكونا من ثلاث حلقات في صحيفة الجزيرة الغراء عام 1424هـ - 2003م ثم أعيد نشر ذلك العرض في كتابي: كتابات عن التصهين، الذي نشر في بيروت قبل ثلاث سنوات. ومن أولئك الكتَّاب الأستاذ محمد السمَّان في كتابه: الصهيونية المسيحية وكتابه: الدين في القرار الأمريكي. وقد كتبت عرضاً للكتاب الأول مكوناً من ثلاث حلقات نشرت في صحيفة الجزيرة عام 1424هـ - 2003م أيضاً، كما كتبت عرضاً من ثلاث حلقات للكتاب الثاني نشرت في هذه الصحيفة سنة 1425هـ - 2004م وكلا العرضين أعيد نشره ضمن كتابات عن التصهين.
والواقع ان جذور التصهين المسيحي عميقة تمتد إلى اعتناق فئات من المسيحيين للمذهب البروتستانتي الذي نشأ في القرن السادس عشر الميلادي وكان من نتائج ذلك أن أصبح الاعتماد على ما يسمى العهد القديم، وبخاصة الثلمود وتسربت إلى العقيدة المسيحية الجديدة الأدبيات اليهودية في ثلاثة أمور: أن اليهود هم شعب الله المختار، وأن هناك ميثاقاً إلهياً يربطهم بالأرض المقدسة في فلسطين، وأن الإيمان بعودة المسيح المنتظر مربوط بعودة تجمعهم في تلك الأرض المقدسة.
ولقد كان الانجلو -ساكسون- وهم العمود الفقري للمستعمرين الأوربيين لقارة أمريكا الشمالية- (أكثر يهودية من اليهود)، كما قال الحاخام المؤرخ لي ليفنجر. ومن دلائل تصهينهم تسميتهم بعض مستوطناتهم في تلك القارة وأولادهم بأسماء عبرية، وفرضهم تعليم اللغة العبرية في مدارسهم، بل إن أول أطروحة دكتوراه تمنحها جامعة هارفرد المشهورة، عام 1642، كان عنوانها: العبرية هي اللغة الأم. وكان عنوان كتاب ألفه رئيس تلك الجامعة، لانفدون: جمهورية الإسرائيليين نبراس للولايات المتحدة.
ومن آثار ذلك التصهين المسيحي الذي من أسسه المتينة دعم الصهاينة أن نادى رئيس أمريكا - جون آدمز، عام 1818م، بإقامة حكومة يهودية مستقلة في فلسطين. وفي عام 1831م كتب جورج بوش- ولعل للرئيس بوش الحالي صلة به - كتاباً عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن المسلمين..
ومما ورد فيه: ما لم يتم تدمير امبراطورية السارزن (يعني المسلمين) فلن يتمجد الرب بعودة اليهود إلى وطن آبائهم وأجدادهم (في فلسطين).
وفي عام 1887م أسس القس بلاكستون، مؤلف كتاب (عيسى قادم)، الذي ترجم إلى كثير من اللغات، منظمة اسمها (البعثة العبرية نيابة عن إسرائيل) ثم زار فلسطين، ورفع شعار: (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض).
وبعد ذلك تمكن من جمع توقيعات 413 شخصية مسيحية ويهودية أمريكية على مذكرة تطالب الرئيس الأمريكي هاريسون بعقد مؤتمر دولي من أجل إعادة اليهود إلى فلسطين بزعم أنها وطنهم الممتد من النيل إلى الفرات.
وكان الرئيس ولسون - وهو المشهور بمناداته بمبادئ ظاهرها الجمال- أول زعيم غبي يؤيد وعد بلفور البريطاني المشؤوم، ولما يمض على تاريخ صدوره إلا بضعة شهور فقط. ومن المعروف لدى الكثيرين مواقف رؤساء أمريكا المتعاقبين الداعمة للصهاينة، وهي مواقف لا يتسع حيز هذه المقالة لعرضها أو عرض الجزء الأكبر منها.
على أن كون مقالة الأخت الكريمة الدكتورة أميمة عن العراق بالذات يجعل من المستحسن أن يضاف إلى ما قالته من كلام مختصر جيد موفق ما اعترف به وزير خارجية أمريكا في عهد بوش الأب، جيسم بيكر، في مذكراته من أنه لم يسبق أن خدمت إدارة أمريكية دولة إسرائيل كما خدمتها إدارة ذلك الرئيس. وجعل في صدارة تلك الخدمات المقدمة للدولة الصهيونية تحطيم قوة العراق، سنة 1991م، وهي القوة التي كانت الخطر الاستراتيجي الحقيقي على تلك الدولة كما قال.
وفي عهد الرئيس الحالي بوش الابن قضي على ما بقي من قوة العراق. وكان هذا القضاء - كما اعترف رئيس أركان القوات الأمريكية نفسه- خدمة لدولة إسرائيل. ولم يقتصر الأمر على تحطيم قوة العراق عسكرياً؛ بل دُمرت أكثر جوانب بنيته الأساسية، ونهبت الكثير من ثرواته، كما نهب الصهاينة ما نهبوا من تراثه العظيم بمساعدة المحتلين المتصهينين. والأدهى والأمر - بطبيعة الحال- تفكيك نسيج المجتمع العراقي، وتأجيج نار الفتن الطائفية والعرقية، التي لا يعلم إلا الله وحده آثارها المدمرة البعيدة؛ حاضراً ومستقبلاً.