وجاءني الخبر الذي كُنت منه أحاذر فقفز إلى ذهني قول الشاعر: |
(وقع الذي كنا نخاف وقوعه...) أجل، رحل الكبير في مقامه، الكريم في إنعامه، سيدي العمّ (عبدالله بن إبراهيم بن معمّر) بعد حياة مباركة امتدت أكثر من تسعين عاماً عُرف فيها بالوفاء والسخاء وبَذل المعروف ونجدة الملهوف، تولّى رحمه الله أعمالاً كثيرة في محافظات مختلفة كبيرة فأدى الواجب كما يجب ومثّل الولاية بما يليق وتَرَكَ في كل بلد ذكراً حسناً وأثراً لا يُنسى وأصدقاء لا يُعدُّون. لا أستطيع أن أروي كلَّ ما أعي من اجتهاداته في حلِّ معضلات الأمور ومعالجة المشاكل بالحكمة والتروّي وعدم الاندفاع الحماسي الذي يُعَقِّد الحلّ ولا يفيد في الجلّ. |
يوم كان محافظاً في إحدى الجهات وقعت واقعة تَسببَ بها شخص كانَ قاتلاً أو قاطع طريق أزعج السلطات وروَّع الآمنين فطلب منه المسؤولون القبض عليه حياً, فَكَّرَ وقَدَّرَ ورأى أنَّ المجازفة والمواجهة قد يترتب عليها قتلى وجرحى وخسائر بالأموال والأنفس فرتّب القبض على طائفة من أقارب الجاني بجلبِهِم والتحفظ عليهم في مكان آمن مع إطعامِهم وإكرامِهم وإعلامِهم بأنَّ إطلاقهم مرهون بإحضار الجاني الفار. وهكذا جرت الأمور بسلام مع توفيق الله وبعد مدّة سلَّم الجاني الهارب نفسه إلى السلطات المختصة. هذه واحدة من نماذج أدائه للعمل ومعالجته لمْا يُكلَّف به من مواجهات تستدعي حُسن المعالجات لا الاندفاع في المجابهات. أمّا الجوانب الاجتماعية فقد كان - رحمه الله - ملمّاً بعادات الناس وطرائق التعامل مع كلِّ الطبقات لأنه من جيل مبارك معتدل المزاج متوازن الشخصية نظيف اليد واللسان لا يعرف الِكبَر إلى قلبهِ سبيلاً يتلطّف مع مراجعيه ويتباسط مع ضيوفه وزائريه. رأيتُه في بعض المحافظات والبلدان التي عَمِلَ بها فرأيت رجلاً سمحاً كريماً يُمثل ولاة الأمر خير تمثيل كان منزله مقصداً للزوار: بابه لا يُغلق، والنار فيه لا تُطفأ، وخاطر الليل لا يُجفى، كان - رحمه الله - حَسَنَ المنطق بعيداً عن البذاءة والتشدّق لا يُحب الغمز في الوراء، واللمز في الخفاء ولا يتعامل بالغموض والإبهام واضح الهدف حَسن السيرة بريء السريرة كأنما قصده الشاعر بقوله: |
لقد بُرّئتَ من غمزٍ ولمزٍ |
كما بُرّئت من قولٍ ركيكِ |
لا أستطيع في مقال واحد أن أعدد أو أحدد مزايا وخصال نموذج من كرام الرجال... كيف تَختصر تاريخ الفقيد في سطر أو تَجمع فضائله في شطر لقد كان - أعلى الله مقامه في الجنان - من جيل مبارك عرفتْهم بلادنا وعرفهم مجتمعنا، جُبلوا على الفطرة السليمة, والسيرة المستقيمة، يرون في تولّي العمل الحكومي فرصة للإحسان، والسعي فيما ينفع الناس وحل الأمور بما يرضي، لا إشغال ولاة الأمر بكلِّ صغيرة وجريرة فأحبَّه المواطنون وقدَّره المسؤولون وذكره المتعاملون. لقد كان الكرم والحلم من أبرز صفاته والوفاء والشهامة من ألزم لازماته.. |
كلما تذكّرت جيل العمّ عبد الله - رحمه الله - وقبيله وتلك الطائفة الصالحة من سلفنا الماضين الذين كانوا قدوة للأجيال ومفخرة بين الرجال لا يُقرَنون بغيرهم، تذكرت القول المنسوب للإمام الشافعي رضي الله عنه: |
إذا ماتَ ذو علمٍ وتقوى |
فقد ثلمت من الإسلام ثلمة |
وموتُ العابد القوَّام ليلاً |
يُناجي ربّه في كل ظلمة |
وموت فتىً كثيرَ الجُّودِ مَحْلٌ |
فإنَّ بقائهُ خصب ونعمة |
وموتُ الفارس الضّرغام هدمٌ |
فكمْ شهدتْ لهُ بالنصرِ عزمه |
وموتُ الحاكم العدل المولّى |
لحكم الأرض منقصةً ورحمة |
أولئك خمسة يُبكى عليهم |
وباقي الناس تخفيف ورحمة |
هذا مقال أكتبه تحت تأثير الوداع وتأثّر الفراق، لرجل عرفته منذ الصغر كبيراً لا متكبراً، ورفيعاً لا وضيعاً أعزّي نفسي وأعزّي أبناءه النجباء وأصدقاءه الأوفياء ومحبيه وعارفيه في كلِّ مكان عمِل بهِ أو سكنَ فيه.. أعزّي الجموع التي جاءت تشاطر أسرته العزاء وتذكر مناقب الفقيد ومواقفه الرجولية ونجداته، وشهاماته، وفزعاته، وهبّاته، تغمد الله الفقيد الكبير بعظيم عفوه، وواسع رحمته، وأدخله مدخلاً كريماً... ولله الأمر من قبل ومن بعد: |
لعلّك في جوار الله باق |
ويشفع في خطاياكَ الرسول |
الطائف - عصبة الأدباء |
|