ابن الجوزي - رحمه الله -، من الشخصيات الفذّة، في مجال التأثير في وعظه وقد اهتم به كثير من العلماء، وتأثر بمنهجه، ومنهم في العصر الحاضر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله.. إذ كان منهجه يمتاز بالوعظ، المؤثّر في النفوس مع طريقة خاصة في الإلقاء، واستحضار الشواهد التي تلامس شغاف القلوب، فهو يأتي في أثناء مجلسه بأشعار من النسيب، مبرّحة التشويق، بديعة الترقيق، تُشعِل القلوب وُجداً، ويعود موضعها النسيبي زهداً، وكان آخر ما أنشده من ذلك، وقد |
أخذ المجلس مأخذه من الاحترام، وأصابت المقاتل سهام ذلك، كما قال الأستاذ ناجي هلال محقق هذه الرسالة: |
أين فؤادي أذابه الوجد |
وأين قلبي فما صحا بعدُ |
يا سعدُ زِدْني جوى بذكرهمُ |
بالله قل لي فُدِيتَ يا سعدُ |
ولم يزل يرددها ثم يردها، والانفعال قد أثّر فيه، والمدامع تكاد تمنع خروج الكلام من فيه، إلى أن خاف الإفحام، فابتدر القيام، ونزل عن المنبر دهشاً عجلاً، وقد أطار القلوب وجلا، وترك الناس على أحر من الجمر، يشيعونه بالمدامع الحمر، فمن مُعْلن بالانتحاب، ومن متعفر بالتراب، فيا له من مشهد ما أهول مرآه، وما أسعد من رآه، نفعنا الله ببركته، وجعلنا ممن فاز بنصيب من رحمه بمنه وفضله (ص16). |
فهذه الرسالة الصغيرة في حجمها الكبيرة في نفعها ومغزاها، تقع في (88) صفحة، صنّفها أبو الفرج: عبدالرحمن بن علي الشهير بابن الجوزي المتوفى عام (597هـ)، طبعتها دار الغرب الإسلامي لأول مرة، عام 1994م، بيروت لبنان، في حجم صغير، وجاء في الطرة: من نفائس الوعظ الإسلامي، تنشر لأول مرة بتحقيق الأستاذ هلال ناجي رئيس اتحاد المؤلفين والكتّاب العراقيين سابقاً، الفائز بجائزة جامعة الدول العربية، في تحقيق المعجمات. |
وبعد أن صوّر ورقة من المخطوطة، قال المحقق: وقد رسم له معاصره العلاّمة: عبداللطيف البغدادي صورة حيّة، إذ قال: كان ابن الجوزي لطيف الصورة، حلو الشمائل، رخيم النغمة، موزون الحركات والنغمات، لذيذ المفاكهة، يحضر مجلسه مائة ألف أو يزيدون، لا يضيع من زمانه شيئا، يكتب في اليوم أربعة كراريس، ويرتفع له كل سنة من كتاباته، ما بين خمسين مجلدا، إلى ستين وله في كل علم مشاركة، لكنه في التفسير من الأعيان، وفي الحديث من الحفّاظ، وفي التواريخ من المتوسعين، ولديه فقر كافٍ، وأما السّجع الوعظي، فله فيه ملكة قوية، إن ارتجل أجاد، وإن روى أبدع. |
وله في الطبّ كتاب: اللفظ مجلدان، وله تصانيف كثيرة، وكان يراعي حفظ صحته، وتلطيف مزاجه، وما يفيد عقله قوة، وذهنه حدة، أكثر مما يراعي قوة بدانه: جل غذائه الفراريج والمزوّرات، ويعتاض عن الفاكهة بالأشربة والمعجنات، ولباسه أفضل لباس: الأبيض الناعم الطيّب، ونشأ يتيماً على العفاف والصلاح، وله ذهن وقاد (ذكيّ) وجواب حاضر، ومجون لطيف، ومداعبات حلوة، وكانت سيرته في منزلة المواظبة على القراءة والكتابة. |
وقيل: كان قد شرب حب البلاذر، فسقطت لحيته، فكانت قصيرة جداً، وكان يخضبها بالسواد، إلى أن مات وصنّف في جواز الخضاب بالسواد مجلاً (ص7-8). |
قال عنه ابن تيمية رحمه الله في أجوبته المصرية: كان الشيخ أبو الفرج مفتياً كثير التصنيف والتأليف، وله مصنفات كثيرة حتى عددتها فرأيتها أكثر من ألف مصنّف، ورأيت بعد ذلك له ما لم أره، وله في الوعظ وفنونه: ما لم يصنّف مثله. |
وقد أفرد له: عبدالحميد العلوجي كتاباً سماه: مؤلفات ابن الجوزي، طبعته وزارة الثقافة والإرشاد بالعراق بغداد عام 1385هـ 1965م بدار الجمهورية للنشر والطبع، قطع فيه الطريق على الراغبين في تعدادها وحصرها (ص9). |
وقد امتحن في آخر حياته، فنفي إلى واسط، وبقي فيها من عام 590-595هـ، ثم أفرج عنه بمسعى من ولده: محي الدين يوسف، الذي قرأ الوعظ ووعظ، ونال حظوة فساعدته أمّ الخليفة الناصر، فشفقت لأبي الفرج عند ابنها، فأمر بإعادته والإفراج عنه وتوفي عام 597هـ ببغداد، ودفن بمقبرة باب حرب، إلى الشمال الغربي من الكاظمية، وكان أوصى أن يكتب على قبره: |
يا كثير العفو عمّن |
كثر الذّنب لديه |
جاءك المذنب يرجو |
الصفّح عن جُرِم يديه |
أنا ضيف وجزاءُ |
الضّيف إحسانُ إليه |
وقال ابن الجوزي عن نفسه: تاب على يديّ مائة ألف، وأسلم على يديّ عشرون ألف يهودي ونصراني، كما جاء في الذيل على طبقات الحنابلة، (ص412). لكن المحقق لرسالته: اللآلئ هلال ناجي قال: وقد يقال: إن فيما تقدّم مبالغة، قد لا تحتملها روح عصرنا، غير أننا لدينا شهادة لمعاصره الرّحالة ابن جبير، ترسم صورة حيّة فذّة لموهبة ابن الجوزي الوعظيّة الخارقة، فقال ابن جبير: ومن أبهر آياته، وأكبر معجزاته، أنه يصعد المنبر ويبدأ القُراء بالقرآن عليه: وعددهم نيّف على العشرين قارئاً، فينتزع الاثنان منهم، أو الثلاثة آية من القراء، يتلونها على نسق بتطريب، وتشويق فإذا فرغوا تلت طائفة أخرى على عددهم، آية ثانية، ولا يزالون يتلون يتناوبون آيات من سور مختلفات، إلى أن يتكاملوا قراءة، وقد أتوا بآيات مشتبهات، لا يكاد المتقد الخاطر يحصّلها عدداً، أو يسميها تسقا، فإذا فرغوا أخذ الإمام الغريب الشأن، في إيراد خطبته، عجلاً مبتدراً، وأفرغ في أصداف الأسماع من الفاظه درراً.. إلى أن قال: ويأتي بعد فراغ خطبتهن برقائق من الوعظ، وآيات بيّنات من الذكر، تطير لها القلوب، اشتياقا، وذابت بها الأنفس احتراقاً، إلى أن علا الضجيج، وأعلن التائبون بالصياح، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح، كلّ يلقي ناصيته ليجزّها بيده، ويمسح على رأسه داعياً له، ومنهم من يُغشى عليه، فيرفع في الأذرع إليه، فشاهدنا هولا يملأ النفوس إنابة وندامة، ويذكرها هول يوم القيامة. |
فلو لم نركب ثبج البحر ونقسف المفازات، إلا لمشاهدة مجلس من مجلس هذا الرجل، لكانت الصفقة الرابحة، والوجهة المفلحة (ص13-16) وبعد المقدمة الطويلة، التي أخذت من المحقق (22) صفحة، التي كانت عن بعض سيرته وأثره، بدأ بهذه الكراسة المخطوطة، التي بدأها ابن الجوزي بهذه المقدمة المختصرة، وهي، التي قد يكون أولها من وضع بعض النسّاخ من تلاميذه: قال شيخ الأمة علم الأئمة، ناصر السنة، أبو الفرج عبدالرحمن بن علي بن الجوزي - رحمة الله عليه - الحمد لله على الإنعام السّرمدْ، والصلاة والسلام على نبيّه أحمد، وعلى من تبعه وصحبه من أحمر وأسود، هذه خُطبٌ، أنشأتها منتقاة مما كنت ارتجله وتكتب عني في مجالس وعظي، على آيات تُقرأ بين يديّ في الحال، جمعتُها من المتلقطين لها، وألفتها على حروف المعجم، والله الموفق.. ثم بدأها بالخطبة الأولى حرف الألف.. وهو يعني بكل حرف ما سجع عليه، حيث سار في جميع حروف الهجاء، ما عدا حروف الخاء والطاء والظاء والغين.. وقد أورد على أكثر الحروف خطباً قد تصل إلى خمس. |
ونموذج ذلك الخطبة الرابعة، في حرف الألف، حيث يقول: الحمد لله سامع السّرّ والنجوى، وكاشف الضرّ والبلوى، ومغيث المتلهّف قبل الشكوى، ومبلّغ المؤمل غاية أمله القصوى، بسوق الرزاق في البر إلى الذّر والأروى، كم أعطش عدله وكم أغبق فضله وأروى من تفكر في ذاته وقع بعيد المهوى، ومن خالفه باتباع هواه ضرّه ما يهوى، لا ينظر إلى صور الأعمال، وإنما يناله التقوى، مدّ أمد الحلم عن فرعون، وقد أضلّ وأغوى، إلى أن غرق يوم اليمّ، أين المنقلب والمثوى، كم آية صرّحتْ، وكم زاجرة لوحّتْ، فلم ينتفع بالصرّيخ ولا الفحوى، بليت جوارحه وبقيت قبائحه تُروى، ويبس زرعُه فخلا ربعُه وأقوى، وكم أهلكتْ الذنوب من كان أكثر منه وأقوى: {وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} (النجم الآيتان 52، 53)، ينظر ص28 من هذه الرسالة.. وكلها على هذا النمط من ص25-88. وتبلغ خطبة، كل واحدة تعتبر مدخلاً لخطبة درسه.. وتتلاءم في هذا الوقت، مع خطباء المساجد الذين يهتمون بمثل هذا النوع من خطبهم، تجديداً وخروجاً عن المألوف. |
|
قال الصّفدي: كان أبو عبدالله بن الجصّاص، من أعيان التجار ذوي الثروة الواسعة واليسار، ولما بُويع لابن المعتز العباسي وانحل له أمره طلبه المقتدر فاختفى عند ابن الجصّاص هذا، فصادر من أملاكه ستة آلاف ألف دينار (ستة ملايين)، ثم أخذوا كما قال ابن الجوزي ستة عشر ألف ألف (16 مليون) دينار، وبقي له بعد المصادرة شيء كثير إلى الغاية. |
وأما عن مداخل ثروته فيقول: كان بدء اكثاري أنني كنت في دهليز حُرَم أبي الجيش خُماروية بن أحمد بن طولون، وكنت أتوكل له ولهم، في ابتياع الجوهر وغيره مما يحتاجونه، وما كنت أفارق الدهليز لاختصاص بهم، فخرجت إلي قهرمانة لهم - المحضية من الجواري - في بعض الأيام، ومعها عقد جوهر فيه مائتا حبّة لم أر قبله أفخر ولا أحسن منه، تساوي كل حبة منه مائة ألف دينار، عندي - والدينار باثني عشر درهماً، فقالت: نحتاج أن نخرط هذه حتى تصغر، فتجعل لأربع عشرات اللعب. |
فكدت أطير وأخذتها، وقلت السمع والطاعة، وخرجت في الحال مسروراً، فجمعتُ التجار، ولم أزل أشتري ما قدرت عليه، إلى أن حصلتُ مائة حبة، أشكالاً في النوع الذي قدرت عليه وأرادته، وجئت بها عشيا، وقلت: إن خرط هذا يحتاج إلى زمان وانتظار، وقد خرطنا اليوم ما قدرنا عليه، وهو هذا - فدفعت إليها المجتمع - وقلت: الباقي يخرط في أيام، فقنعت بذلك، وارتضت الحبّ، وخرجتُ فمازلت أياماً في طلب الباقي، حتى اجتمع. |
فحملت إليهم مائتي حبة، قامت عليّ بأثمان قريبة، تكون دون مائة ألف درهم أو حواليها، وحصلت جوهرا بمائتي ألف دينار، ثم لزمت دهليزهم، وأخذت لنفسي غرفة كانت فيهن فجعلتها مسكني، وكان يلحقني من هذا أكثر مما يحصى حتى كثرت النعمة، وانتهيت إلى ما استفاض خبره عن مالي. |
وحكى ابن الجصّاص: قال: كنت يوم قبض على المقتدر، جالساً في داري، وأنا ضيّق الصدر، وكانت عادتي إذا حصل لي مثل ذلك، أن أخرج جواهر كانت عندي في درج، مُعدة لمثل هذا، من ياقوت أحمر وأصفر وأزرق، وحباً كباراً، ودُراً فاخراً، ما قيمته خمسون ألف دينار - يعني ست مائة ألف درهم -، وأضع ذلك في صينية، وألعب به فيزول قبضي، فاستدعيت بذلك الدرج، فأتي به بلا صينية، ففرغته في حجري، وجلست على صحن داري في بستان، في يوم بارد طيّب الشمس، وهو مُزهر بصنوف الشقائق والمنثور، وأنا ألعب بذلك، إذ دخل الناس بالزعقات والمكروه، فلما قربوا مني دُهشت، ونفضتُ جميع ما كان في حجري من الجوهر، بين ذلك الزهر في البستان ولم يروه، وأخذتُ وحُمِلتُ، وبقيت مدّة في المصادرة والحبس. |
وفي هذه المدة جفّ البستان، فلما فرّج الله عني، وجئت داري، ذكرت الجوهر وأيقنت أنهم نهبوه، ثم قمت بنفسي، ومعي غلام يثير البستان بين يديه، وافتش ما يثيره، وآخذ منه الواحدة بعد الأخرى، إلى أن وجدته كاملاً ولم أفقد منه شيئاً. (الوافي بالوفيات 240:12). |
|