أول أمس الثلاثاء 9 - رمضان 1429هـ نعى الناعي الإمام وارث الدين محمد.. ومع التسليم بقضاء الله تعالى والرضا بمشيئته وقدره إلا أن الخبر نزل عليَّ وعلى من يعرفون الرجل نزول الصاعقة؛ لأن فقده في هذا الوقت بالذات يعتبر خسارة فادحة لحركة الإسلام والمسلمين السنيين في الولايات المتحدة، وأيضاً لعموم الأمريكيين ذوي البشرة السمراء المنحدرين من أصول أفريقية، والذين بدأوا احتفالاتهم مبكراً بالفوز المتوقع لمرشحهم الديمقراطي باراك أوباما، في الانتخابات الرئاسية التي ستجرى في نوفمبر القادم، ليكون بذلك أول أمريكي أسود يدخل البيت الأبيض رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية عبر تاريخها الحافل والزاخر بالأحداث..
وللذين لا يعرفون وارث الدين أقول: هو الرجل الذي باع الدنيا ومتاعها الزائل وكل ما فيها ليشتري رضاء ربه وراحة ضميره، وهو الزعيم الروحي للمسلمين السنيين من الأمريكيين ذوي البشرة السمراء الذي استطاع بفضل حكمته وحنكته وحصافة رأية واعتداله وزهده في المناصب الدينية والسياسية أن يجبر الناس - كل الناس- على احترامه ليصبح رقماً مهما في خارطة المشهد الأمريكي رغم ابتعاده الاختياري عن الساحتين السياسية والإعلامية وعالم الشهرة والأضواء.
ولقد عرفت وارث الدين منذ أكثر من أربعين عاماً، عرفته أخاً وصديقاً عزيزاً، اجتمعت فيه كل الخصال الحميدة من أدب جم وعفة وتواضع علاوة على ما يتمتع به من إلمام وتمسك بتعاليم الدين الحنيف؛ مما دفع حتى غير المسلمين للإشادة به، وقد تكفي هنا شهادة السناتور الأمريكي بول فندلي الذي كتب عنه قائلاً: (إن محمد علي كلاي يعتبر الآن الأول من بين جميع الأمريكيين، الأحياء والأموات، من حيث الشهرة العالمية والشعبية، كشخصية أسطورية مرموقة ومحبوبة.. وهو (أي كلاي) والبطل العالمي كريم عبدالجبار ووارث الدين محمد يعتبرون وجوهاً مشرقة للإسلام في أمريكا.. ونفس الشيء ينطبق على الدكتور أحمد زويل ومصطفى العقاد وإبراهيم بولغد ورشيد الخالدي وغيرهم) (1)..
ووارث الدين الذي عرفته عاش ورحل وهو يحمل هم الإسلام والمسلمين من بني جلدته طوال حياته.. وقد لاقى في سبيل ذلك ما لاقى من أهوال؛ حيث طرده والده إليجا محمد من السكن ومن عضوية الحركة ثلاث أو أربع مرات بسبب رفضه الاعتراف بالربوبية المزعومة لوالاس فارد وادعاء والده بأنه رسول من الرب فارد.. هكذا عاش ورحل وارث الدين من دون أن يتلوث مثل غيره بشرك بالله، مضحياً في سبيل ذلك بالكثير ومعرضاً حياته للخطر.
وعندما آلت مقاليد الأمور وزعامة حركة أمة الإسلام إلى وارث الدين، بعد وفاة والده إليجا محمد في فبراير 1975م، لم يتغير الرجل قيد أنملة، ولم تبهره أو تبدله الثروة الضخمة التي أصبحت بين يديه ما بين يوم وليلة، والتي كانت تقدر بمئات الملايين من الدولارات، بل ظل عفيفاً نظيفاً وفياً لمبادئه وللقضية والرسالة التي آلى على نفسه أن يحملها، ألا وهي تصحيح أخطاء والده، مفضلاً العيش في نفس المسكن البسيط والذي اشتراه بِحُر ماله بدلاً عن الانتقال للقصر الفخيم الذي عاش فيه والده في أرقى أحياء شيكاغو، ليواصل حياة الزهد والتقشف التي ألفها وألفته حتى لحظة انتقاله إلى الرفيق الأعلى.
إن الحديث عن خصال وأعمال وارث الدين حديث ذو شجون يثير في النفس الكثير من الذكريات المؤلمة لذلك أشعر الآن كما أعتقد أن الكثيرين يشاركونني نفس الشعور بأن هذا الغياب المفاجئ لوارث الدين سيترك فراغاً كبيراً.. ولا أملك إلا أن أقول إن المصاب عظيم، والفقد جلل، ولا نملك إلا الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره جلت قدرته وحكمته، ويبقي عزاؤنا في ما تركه لنا من انجازات ومكاسب وأعمال، ولعل أهمها أنه استطاع وبعون الله وتوفيقه أن يقود لواء أكبر عملية تصحيح للعقيدة، أو بعبارة أخرى أكبر عملية إصلاح ديني في العصر الحديث؛ إذ استطاع وخلال أقل من عشرة أعوام إعادة أكثر من مليونين من المضلَّلِين إلى رحاب الدين القويم والإسلام الصحيح، وكان والده قد رسخ في أذهانهم ومن سبقهم مفاهيم خاطئة عن الإسلام الذي شوهه وحرفه لغرض في نفسه إلى أن جاء وارث الدين بالخبر اليقين ليطل من خلاله فجر جديد.. ولكل ذلك وغيره أصبح الإمام وارث الدين هو الرمز والمرجع فضلاً عن كونه الأب الروحي للأمريكيين المسلمين أصحاب البشرة السمراء، ويكفي دليلاً على ما يحظى به من تقدير رسمي وشعبي أن تمت دعوته لإمامة المصلين داخل مبنى الكونجرس الأمريكي في أول حالة من نوعها في التاريخ الأمريكي، والرجوع إليه قبل اتخاذ أي قرارات فيما يختص بالأمريكيين المسلمين ذوي البشرة السمراء.
نعم.. رحل الإمام وارث الدين عن دنيانا الفانية إلى عالم الخلود، وترك لنا أمانة عظيمة تتمثل في ضرورة العمل المخلص الدؤوب لتثبيت عقيدة من هداهم إلى الدين القويم لضمان عدم عودتهم إلى طريق البغي والضلال، فماذا نحن فاعلون؟..
ألا رحم الله الأخ وارث الدين رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، وألهمنا وأهله الصبر والسلوان، ويبقى علينا المحافظة على المكتسبات التي حققها لنا..
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}..
كتابي بعنوان((المسلمون السود في أمريكا:القصة الكاملة ص194))