تعهّد البصريون وحدهم النحو بعد مرحلة وضْعِهِ المبكّر على يد أبي الأسود الدؤلي بإرشاد علي بن أبي طالب بالعناية والرعاية قرابة قرن من الزمان، وقد اتجهت البصرة وجهة خاصة في أساليب البحث النحوي وطرق الاستنباط ومبلغ الاعتداد بالشواهد وغير ذلك، ونشأ عن هذا أن أصبح للبصرة مذهب له طابع خاص، وقد وضع البصريون قواعد عامة لنحوهم والتزموا بها بشدّة فأخذوا بالشواهد الموثوق بصحتها الكثيرة النظائر المسموعة من الفصحاء باطراد، فكانت قوانينهم التي أقاموها على هذه الشواهد أقرب إلى الدقة، أما ما ورد من صحيح كلام العرب مخالفاً لها فإنهم كانوا يؤولونه لينسجم معها، أو يحكمون عند عجزهم عن التأويل بأنه شاذ عن القاعدة يُقبل لأن قائله ممن يحتج بهم لكنه يحفظ ولا يقاس عليه أو يرمون هذا المخالف بأنه مصنوع لا يلتفت إليه أو لحن من مولد ينبغي أن يُطرح، ولذا كثر عندهم التأويل والحكم بالشذوذ والضرورة، بل لقد تجرأ البصريون على أكثر من ذلك فخطأوا أحياناً بعض العرب من أهل الاحتجاج في أقوالهم أو في قراءاتهم للقرآن إذا لم تجر على قواعدهم، وهم بذلك قد فضلوا القانون النحوي وآمنوا بسلطانه وجروا على القاعدة النحوية وأهدروا ما خالفها حتى لو كان مسموعاً صحيحاً. |
وكان البصريون أقل رواية للشعر وكان المصنوع لديهم منه أقل من الشعر المصنوع عند الكوفيين، وهذا هو السبب الذي جعل البصري يتحرج أن يأخذ عن الكوفي الشواهد، قال اليزيدي النحوي البصري في ذم الكسائي وأصحابه الكوفيين: |
كنّا نقيس النحو فيما مَضَى |
على لسان العرب الأَوَّلِ |
فجاءنا قوم يقيسونه |
على لُغَى أشياخ قُطْرَبُّلِ |
إنّ الكسائي وأصحابه |
يرقَون في النحو إلى أسفلِ |
وقال الرياشي النحوي البصري مفتخراً على الكوفيين (أخذنا اللغة من حَرَشَةِ الضِّباب وأكلة اليرابيع وأخذوها من أهل السواد وأكلة الشواريز وباعة الكواميخ) أي نحن أخذنا اللغة عن البدو الخلَّص والكوفيون أخذوها عن عرب المدن. (الشّواريز جمع شيراز كدنانير جمع دينار وهو اللّبن الرائب المصفَّى الثمين، والكواميخ أو الكوامِخ جمع كامخ بفتح الميم أو بكسرها وهو مخلل يُشهِّي الطعام). |
لقد كان البصريون الأرسخ قدماً والأكثر تنظيماً للقواعد النحوية وكانوا الأوسع علماً والأولى بالثقة، وكانت طريقتهم الأقوى سلطاناً على اللغة، وشواهدهم الأكثر خضوعاً للانتقاء واتصافاً بالدقة فيه مما جعلهم أشبه بالمحافظين المتمسكين بالقديم الثابت. |
وقد تأثر البصريون بالمعارف العقلية وبالمنطق تأثراً عميقاً فحرصوا على المدود والرسوم، وأكثروا من التأويل والتقدير والتوجيه، وعنوا بالقياس واعتدوا به واعتمدوا عليه والتزموا الدقة في إجرائه وفي إقامة علله محتكمين إلى الموازين العقلية ومتأثرين بالمنهج الفلسفي، كذلك شُغِلوا بالتقنين والتقعيد بسبب تأثرهم بالمنهج الكلامي عن الاهتمام بمادة اللغة لذاتها فحاولوا إخضاع هذه المادة لما وضعوه من قوانين وقواعد اعتمدت على أسس فلسفية وتأثرت بالروح المنطقية وأصبحنا نرى عندهم للقوانين قوانين أخرى ولعلل الأقيسة الأولى عللاً ثواني وثوالث وراءها. |
ومن أهم النحاة البصريين: أبو الأسود الدؤلي المتوفى بالبصرة سنة 69هـ، وابن أبي إسحاق الحضرمي المتوفى بالبصرة 117هـ، وعيسى بن عمر الثقفي المتوفى بالبصرة سنة 149هـ، وأبو عمرو بن العلاء المتوفى بالكوفة 154هـ، وأبو الخطاب الأخفش الأكبر أو الكبير ولم يُعْرَف تاريخ وفاته أو مكانها، والخليل بن أحمد الفراهيدي أو الفرهودي المتوفى بالبصرة سنة 160هـ، ويونس بن حبيب المتوفى بالبصرة 182هـ، وسيبويه المتوفى بفارس سنة 180هـ، واليزيدي المتوفى بمدينة (مرو) سنة 202هـ، وقطرب المتوفى ببغداد سنة 206هـ، والأصمعي المتوفى بمرو سنة 213هـ، وأبو عبيدة مَعْمَر بن المثنى المتوفى بالبصرة 213هـ، وأبو زيد الأنصاري المتوفى ببغداد 214هـ، وسعيد بن مسعدة الأخفش الأوسط المتوفى ببغداد سنة 215هـ، والتَّوَّزي المتوفى ببغداد سنة 233هـ، والمازني المتوفى بالبصرة سنة 247هـ، وأبو حاتم السّجستاني المتوفى بالبصرة سنة 250هـ، والجَرْمي المتوفى ببغداد سنة 255هـ، والرياشي المقتول في البصرة سنة 257هـ، والمبرّد (بكسر الراء وفتحها) المتوفى ببغداد سنة 285هـ. |
أ. د/ عبدالكريم محمد الأسعد |
أستاذ سابق في الجامعة |
|