تقع تطوان في الشمال الغربي للمغرب، على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بين مرتفعات جبل درسة وسلسلة جبال الريف، وتبعد عن طنجة حوالي 60 كيلو متراً، وعلى بعد حوالي 40 كيلو متراً بالاتجاه نحو طنجة تقع على الشاطئ مدينة سبتة المحتلة من إسبانيا، وكان من دوافعي لزيارة طنجة الوقوف عند أسوار هذه المدينة العربية السليبة من محتل له معنا تاريخ طويل، وكنا على مدى ثمانية قرون أسياد إشعاع حضاري انطلق من أرضه وغمر العالم كله بالنور!
سلك بي السائق طريقاً متعرجاً عبر جبال الريف، فأمتعني منظر الجبال الخضراء والبيوت الصغيرة المتناثرة على قممها، فكنت أتأمل تلك المناظر الرائعة التي كنت أقرأ وصفها في الروايات العالمية، وقلت لنفسي: ما أسعد هؤلاء الفلاحين؛ فهم في جنة الدنيا يأكلون من أرضها ما يزرعون، ويشربون من لبن أغنامهم، فهل هم حقاً استغنوا عن بقية حطام الدنيا الذي يتقاتل عليه الناس في المدن؟!
ورغم استمتاعي بالطريق إلا أنني انتبهت إلى أنه طريق غير مطروق لضيقه وتعرجه وقلة السيارات فيه، وقلت في نفسي إنه لا يمكن أن يكون هذا هو الطريق الذي يرتاده السياح إلى تطوان، وهذا ما اكتشفته بالفعل؛ فهناك طريق ساحلي أجمل يمر بمحاذاة سبتة، وعرفت أن صاحبي السائق غير خبير بطريق تطوان.
وعندما لاحت لي تطوان بعد ساعة تقريباً لحظت غلبة اللون الأبيض على منازلها، هادئة، وادعة، قليلة السكان، تجولنا في أنحائها بالسيارة حتى وصلنا إلى قلبها القديم فترجلنا، وتجولت في أزقة أسواقها القديمة الضيقة التي ذكرتني بأسواق مدينة فاس القديمة إلا أن فاس أكثر نظافة وتنظيماً.
ولم أعجب لوجود الأثر الأندلسي الواضح الملامح بها في معمارها وحدائقها؛ فهي تشبه أيضاً غرناطة في أزقتها وطريقة حياة أهلها وموروثهم التاريخي والفني، وهذا ليس بغريب؛ فقد كانت تطوان بمثابة قنطرة بين الأندلس والمغرب، ومع ذلك فقد تميزت أحياء تطوان بالانتماء إلى حقب تاريخية مختلفة، وبتكيف طابعها الأندلسي في عمومه مع عصور وأزمنة مختلفة؛ ففي قصر الرزيني مثلاً نرى التقاء الطراز المعماري الأندلسي العثماني بالطراز الأوروبي، ومن أهم معالمها المعمارية مسجد الجامع الكبير الذي بناه السلطان مولاي إسماعيل في القرن الثامن عشر وزاوية سيدي علي بن ريسون وزاوية سيدي علي بركة ومدرسة لوقاش التي كانت مؤسسة علمية كبرى تستقبل الطلبة من الخارج، ودار الصنعة أو مدرسة الفنون والصناعة التقليدية وقصر الخليفة الذي بُني في القرن السابع عشر ويُعدُّ مثالاً للعمارة الأندلسية المغربية، ولا تزال حاراتها القديمة مثل حارة العيون وحارة الجامع الكبير وحارة المطامر تحتفظ بعبقها التاريخي الشعبي.. وتحاط تطوان القديمة بسبعة أبواب، هي: باب النوادر، باب التوت، باب العقلة، باب المشوار، باب الرواح، باب الرموز، وباب الجياف. وقد ظلت هذه الأبواب مفتوحة لم تغلق في استقبال إخوة الجوار العربي المسلم؛ فمنذ سقوط غرناطة آخر قلاع المسلمين في إسبانيا سنة 1492هـ وصل إلى تطوان آلاف مؤلفة من المسلمين الفارين بدينهم، وكذلك اليهود الذين اضطهدوا بعد سقوط دولة الإسلام في الأندلس، ولتلك الأسباب مجتمعة لُقبت تطوان (أخت فاس)، كما لُقبت (أخت غرناطة). وفي الوقت نفسه كانت تطوان همزة وصل حميمة بين المشرق العربي والمغرب العربي من خلال تكرر زيارة علمائها وأدبائها إلى مكة المكرمة والقاهرة ونابلس، ودخلت تطوان تاريخ المروءة من أوسع أبوابه عندما رحبت بالمهاجرين الجزائريين بعد سقوط الجزائر في يد الفرنسيين سنة 1830هـ.
كانت جولة قصيرة في أحياء تطوان، لكني وقفت فيها على تاريخ طويل وعريق، وقبيل الغروب طلبت من السائق العودة إلى طنجة عن طريق البحر عبر سبتة، فكان هذا الطريق الساحلي نقلة كبيرة من العالم القديم الذي كنت فيه؛ فعلى طول هذا الطريق إلى سبتة شاهدت سلسلة من أرقى وأجمل المنتجعات السياحية التي اجتذبت أثرياء العالم من كل مكان، ففي منتجعات كابو نيكرو، وكابيلا، ومارينا سمير، وريستينكا وتامودا باي - وكلها أسماء أجنبية - تجد نفسك في عالم أوروبي لا علاقة له بالتاريخ العربي الإسلامي الذي شاهدته وعشته في تطوان.
ولاحت لنا مدينة سبتة الأسيرة بيوت بيضاء يحتضنها جبل أخضر ويحوطها سور عليه حراس شداد غلاظ من الإسبان، وأمامها بحر وقفتُ لحظات أتأمل أمواجه التي رأيتها تتكسر على صخور شاطئه بأنفاس حرى من الشعور بالمذلة لعدم مقدرتنا على استعادة هذا الشبر الذي يقع في عمق التراب العربي المغربي، وعلمت من السائق أنه يسمح فقط لأبناء مدينة تطوان بدخول سبتة ببطاقاتهم الشخصية، ويمنع من الدخول بقية أبناء الشعب المغربي. وقد رأينا عشرات السيارات التي تقوم بتهريب البضائع إلى أسواق طنجة وتطوان؛ فسبتة ليست مركز شرطة عسكرياً على أرض عربية بل أيضاً منفذ اقتصادي لتسويق المنتجات الإسبانية في المغرب العربي.
وألقيتُ نظرة أخيرة على الأمواج التي تتكسر قهراً أمام أسوار سبتة المحتلة، واتجهنا يساراً في طريق إجباري إلى مرتفعات سوداء أظنها جبال درسة، وعندما وصلنا إلى القمة نظرت إلى الأسفل، الأرض الخضراء كأنها موج من فوق موج عن يمين وشمال، فقلت هذه من جنان الله في الأرض، وعندما تلفتُّ لألقي نظرة أخيرة على سبتة التي خلفناها وراءنا - وكان الظلام قد حلّ - رأيت ضوء منازلها يلمع كدموع من عينٍ حزينة تتساقط على بحرها فتزيده شعوراً بالمرارة!
وبدخولنا جبال الريف القاتمة اللون واكتمال حلول الظلام بدت لي سيارتنا وكأنها تسبح في بحر الظلمات، وبينما كان السائق يثرثر بكلام كثير لا أفهمه لصعوبة لهجته، وفايزة أحمد تغني في راديو السيارة الذي لم يتوقف عن الكلام أيضاً (إنت وبس اللي حبيبي)، وجدت نفسي بعيداً عنها وعنه، أستعرض تاريخنا العظيم عندما عبرنا هذه البحار المظلمة نحمل مشاعل نورها من قبس قلوبنا المؤمنة، فأضأنا ما وراء البحار، وترحمتُ على طارق بن زياد ويوسف بن تاشفين، ووصلت طنجة وعقلي وقلبي مزدحمان بالخواطر والفكر، ونمت تلك الليلة بعمق بعد يوم طويل، مغادراً في اليوم التالي إلى المشرق الحبيب، مودعاً المغرب الغالي على أمل العودة إليه قريباً إن شاء الله.
hemaid1425@yahoo.com