تشخيص المشكلة، أياً كانت هذه المشكلة، وتحديد أبرز معالمها والوصول إلى أسباب وجودها وتأزمها ومعرفة آثارها الذاتية والمجتمعية القريبة والبعيدة أمر مهم جداً، والأهم منه إيجاد الحلول الناجزة والمؤكدة لهذه المشكلة أو تلك، والتوصل إلى أهم السبل والوسائل التي تخفف من حدتها وتساعد أهل الاختصاص في علاجها من جذورها في المستقبل القريب، ومن أبرز الإشكاليات الاجتماعية المحلية المعقدة والمتأزمة (إشكالية الطلاق)..
.. ولقد لفت نظري وبشكل كبير الأرقام التي تنشر في الصحف السعودية بين الفينة والأخرى عن عدد المطلقات في مجتمعنا المحلي. والغريب أن ملف هذه القضية النشاز والتي طال زمنها ولم يلح في الأفق حلٌّ لها لم يفتح بشكل جدي من قبل أهل الحل والعقد أصحاب القرار، وكان المتأمل أن تتداعى الكتابات والتعليقات من قبل أهل الاختصاص ورجل الحسبة والشورى سعياً جاداً من الجميع للوصول إلى حل مقنع وفعال لهذه الظاهرة والأزمة في آن، وساءني كذلك وبشكل أكبر الحديث المتصاعد في هذه الأيام عن هروب عدد من الفتيات السعوديات من مساكنهن إلى المجهول أو حتى إلى مكان معلوم!! الأمر الذي يشي -لا سمح الله- بميلاد ظاهرة جديدة لا عهد لهذه البلاد بها - وإن سٌجل عدد من الحالات الفردية خلال السنوات الخمس الماضية - مما جعل الجهات ذات العلاقة تتحرك - وبشكل علمي مدروس- لدراسة هذه الإشكالية وتتبع أسبابها وأبعادها وآثارها على المجتمع الأسري والحضري مٌشركة معها في هذا العمل الوطني الهام خمساً من الوزارات ذات الصلة المباشرة بمثل هذه الظواهر الاجتماعية المؤذية، ومن منظور واقعي صرف، وحتى لا تقع المرأة تحت طائلة الابتزاز واستغلال الظرف الصعب الذي تمر به سواء حين تٌطلق أو تترمل أو حتى عندما تهرب من بيت وليها أو يقبض عليها متسولة أومرتكبة أمراً محذوراً أو عاملة منزلية لم يحضر وليها لتسلمها من المطار، أو أنها هاربة منه أو... فإنني أطرح هنا فكرة دارت بخلدي منذ أيام، وأعتقد أهميتها علها تجد من يتبناها عملياً سواء أكان رجلاً من رجال الأعمال الذين يشهد لهم تاريخهم العطر ببذلهم وعطائهم في سُبل الخير المختلفة، أوحتى تفتح إحدى الجمعيات الخيرية المهتمة بشأن المرأة مساهمة وقفية لهذا المشروع الخيري في هذا الشهر الفضيل والموسم العظيم.
والفكرة بإيجاز بناء وقف خيري لرعاية هذه الفئة المحتاجة من النساء وإسكانهن بسكن خاص بهن حتى تتهيأ لهذه المطلقة أو تلك الفتاة التي تمر بظروف عائلية صعبة أو... سبل الحل والعودة إلى حياتها الطبيعية خاصة في المناطق التي تدل الإحصائيات الرسمية على ارتفاع النسب فيها كمنطقة مكة المكرمة ومنطقة الرياض، ثم تعمم الفكرة لتشمل جميع مناطق المملكة، ووجود مثل هذه المساكن وتوفير الرعاية الكاملة لهذه الفئات المحتاجة من النساء ليس بدعاً من القول ولا هو فعل مستحدث، بل له شواهد في تاريخنا الإسلامي؛ ففي مصر مثلاً كان هناك وقف لسٌكنى الأيامى (والأيم هي المرأة الفقيرة التي لا زوج لها ولا مأوى) تسكن في هذا الوقف الذي يقوم عليه ويخدم فيه ويحرسه ويتابع شئونه موظفات مختصات على حساب الواقف، وغالباً ما يكون من ريع منافع الوقف المؤجرة، وكان في مدينة مراكش كذلك وقف يعرف ب(دار الدقة) وهي مسكن تقطنه النساء اللاتي يقع نفور بينهن وبين أزواجهن، يقمن بهذه الدار آكلات شاربات إلى أن يزول ما بينهن وبين أزواجهن من النفور، ويُخدمن من قبل موظفات مخصصات يدفع رواتبهن الواقف، وكان من بين الموظفات في هذه الدار مرشدة تعالج أسباب الغضب وتهيئ نفوس الزوجات لعودة العلاقات الطيبة بينهن وبين أزواجهن، ليس هذا فحسب بل كان في دمشق كما يذكر ابن بطوطة أوقاف على تجهيز البنات ليلة الزواج ومثله في تونس، وأوقف صلاح الدين الأيوبي -رحمه الله- وقفا لإمداد الأمهات بالحليب اللازم لأطفالهن، إذ جعل في أحد أبواب قلعة دمشق ميزاباً يسيل منه الحليب وميزاباً يسيل منه الماء المذاب بالسكر فتأتي الأمهات يومين في الأسبوع ليأخذن لأطفالهن ما يحتاجون إليه من الحليب والسكر والأمثلة والشواهد التاريخية في هذا كثيرة، وقصص المطلقات في مجتمعنا المحلي وحكايات الفتيات اللاتي اجتمع عليهن الفقر والعوز وغياب الولي الصالح المصلح والفاهم في كيفية التعامل مع ضغوط الحياة كثيرة ومريرة، وللأسف الشديد وربما يعرف كل منا طرفا منها، ولذا كانت هذه الدعوة عبر هذه الزاوية وفي هذا الشهر الفضيل لتبني هذا الوقف الخيري المخصص للمرأة، فنحن أحق بالوقف من الجامعات الغربية والمشاريع التطوعية والأهلية هناك فهو- الوقف - غراس إسلامي صرف، وكتب الفقه ومدونات السير شاهد على ذلك، قد يقول قائل إن دعوة وجود مثل هذا الوقف قد تكون سبباً في كثرة حالات الهروب والمشاكل الزوجية؛ لأن المرأة تعلم حين يحدث بينها وبين زوجها سوء تفاهم أن هناك من يؤويها ويرعاها حتى ترضى، ولا أعتقد أن هذا وارد وحتى وإن كان فلا يترك الأمر لوجود مثل هذا التخوف المتوقع، وليس المجزوم بحدوثه، وقد قيل مثل ذلك حين وجدت دور المسنين، ولم يحدث ما تخوف منه -ولله الحمد والمنة- فنحن في مجتمع ديني متماسك اجتماعياً في وجهه العام، كما قد يقال إن الله أمر المرأة المطلقة طلاقا رجعياً أن تبقى في بيت زوجها فربما كان ذلك سببا في انكسار قلبه وعطفه عليها ومن ثم إرجاعها، وهذا صحيح ولكن الواقع على الأقل في بلادنا وفي هذا الوقت بالذات خلاف ذلك ولا يقبله كلا الطرفين، ومع وجوب التذكير بهذا الأمر الرباني قطعي الدلالة قطعي الثبوت؛ فإن التغيير لما هو مألوف ومعتاد عليه يحتاج إلى وقت وحتى يتحقق ذلك يمكن أن تكون هذه الأوقاف مكاناً صالحاً ومهيئاً لمن لا أهل لها، أو لديها من الظروف ما يمنع عودتها إلى بيت أهلها؛ فالبيوت أسرار ويمكن الاستعانة بأعضاء لجان إصلاح ذات البين المنتشرة في مناطق المملكة المختلفة؛ وكذا القضاة في المحاكم الشرعية وكتّاب العدل ورجال الحسبة ومأذوني الانكحة وغيرهم كثير لرسم رؤية متكاملة عن مثل هذا الوقف الخيري، والله من وراء القصد.