لقد اعتاد غالبية المثقفين العرب (الحداثيون والتقليديون والسلفيون) بكافة أطيافهم على التعبيرات العاطفية في توضيح فكرة الدولة عبر مفاهيم خيالية تتناول المفترض غير المحدد وغير القابل للتطبيق وغير قابل للقياس، حيث يُستخدم مفهوم الأمة (وحدة الجماعة) مقابل الدولة (المواطنة وحقوق الفرد)..
هنا يتم التعامل الفكري مع الأمة المرغوبة في الوجدان، مقابل الدولة المتحققة في العيان.. الأمة كما يجب أن تكون مقابل الدولة كما يمكن أن تكون.. الأمة الروحية مقابل الدولة العقلانية.. الأمة المثالية مقابل الدولة الواقعية! ومفهوم الأمة هنا قد يُطرح بإطار حديث أو بإطار قديم فقهي، وكلاهما طوباوي، لأن الموجود هو الدولة وليس الأمة.. ولذا ليس غريباً أن نجد أن نسبة كبيرة من الأفراد يشعرون بانتمائهم العاطفي والشعوري لفكرة الأمة (الحلم) غير الموجودة مقابل فكرة الدولة (الواقع) الموجودة.
ورغم ما يعانيه بعض البلدان العربية من صراع الوجود كدولة (العراق، لبنان، الصومال..)، أو من بعض التمزقات الجانبية (السودان، اليمن، الجزائر..) التي تهدد كيان الدولة، أو من أزمات طاحنة في بلدان أخرى تجعل مشروع الدولة غير واضح، فإنه قلما نجد مشروعات فكرية في نظرية (الدولة) العربية الحديثة سوى محاولات فردية متفرقة (العروي، الجابري، سمير امين، وضاح شرارة..). أما غالبية الأعمال السياسية للمفكرين العرب عند تناولها (الدولة) تكون إما غارقة في المدلول السياسي الضيق كنظام حكم (السلطة السياسية)، أو تكون أعمال تقنية على مستوى مجزأ لتنظيمات الدولة كعناصر متفرقة وليس كجهاز متكامل، أي تتناول مظاهر السلطة كتنظيم هيكلي لأجهزة بيروقراطية وليس تناول مفهوم الدولة المؤسساتي وأسسها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفلسفية.
هذا الإهمال الفكري والسياسي لنظرية (الدولة) الحديثة في المنطقة العربية سبَّب كثيراً من الإرباك والغموض في فهم فكرة (الدولة). وهذا بحد ذاته يشكل أزمة معرفية تؤثر بالمحصلة النهائية في طريقة صنع القرارات وإصدار القوانين، ناهيك عن تأثيره في ذهنية القوى السياسية المؤثرة (الموالاة والمعارضة) وأفراد المجتمع.
ويتفاوت المدلول الحديث للدولة في الثقافة العربية بين مفاهيم مختلفة كواحد أو أكثر من المصطلحات التالية: أمَّة، خلافة، حكومة، نظام حكم، سلطة، ولاية فقيه، مشيخة، إمامة، مُلك.. الخ، لأن هذه الثقافة لم تنشغل بمناقشة مفهوم الدولة الحديثة أي مؤسسة الدولة اجتماعياً وقانونياً وفلسفياً، ضمن حدود جغرافية وسكانية، بل انشغلت بمفهوم الدولة كنظام حكم سياسي.
أما الحركات الإسلامية السياسية فإنها لم تتبن مشروع الدولة الحديثة بل مشروع الأمة، وأحياناً لم تستطع التفريق بينهما. وظلت هذه الحركات مسكونة بهاجس رد الفعل الرافض للأنماط الغربية دون وضع بدائل حديثة واقعية لمؤسسة الدولة.. بل أن أغلب هذه الحركات لا تعترف بشرعية الدول العربية بسبب هيكليتها الغربية، رغم أن هذه الحركات نفسها تتبنى الأساليب والهياكل التنظيمية على الطريقة الغربية في عملها السياسي والاجتماعي والإداري!
فما هو مفهوم الدولة الحديثة؟ هناك العديد من التصورات يمكن إيجازها باقتضاب في وجهتين: الأولى هي التصورات اللبرالية، وهي غالباً ترى الدولة تجسيداً لإرادة العموم وصورة للسلطة العامة، مستقلة ومتسامية عن المجتمع بصراعاته الاجتماعية وتقسيماته الطبقية وعلاقاته الاقتصادية.. إنها العقد الاجتماعي (دولة القانون والمؤسسات) وحقوق المواطن.. الدولة في هذه الحالة تسبغ على المجتمع الطابع القانوني، أي أن الدولة محكومة بالتشريعات التي تسنها؛ كما تسبغ على المجتمع الطابع العقلاني (غير الشخصي) أي أنها تتعامل مع الأفراد بصفاتهم القانونية العامة المجردة وليس باعتبارهم أشخاصاً لهم مكانة معينة (طائفية أو طبقية أو عرقية).
والوجهة الثانية هي التصورات الاشتراكية والماركسية وهي غالباً ترى الدولة كجزء من المجتمع يتأثر بصراعاته الطبقية وعلاقاته الاقتصادية، حيث لا يمكن للدولة أن تستقل عن علاقات القوى الناشئة عن الملكية الخاصة لرأس المال، وبالتالي فالدولة تعمل على خدمة الطبقة البرجوازية المسيطرة من خلال إطار قانوني ومؤسسي (رغم أن الدولة جهاز مستقل نسبياً حسب ماركس). وعموماً لا تنكر غالبية التصورات اللبرالية تأثير الوضع الاقتصادي وعلاقاته الإنتاجية والانتماء الطبقي على استقلالية الدولة الحديثة وبالتالي دعمها للطبقة الرأسمالية المسيطرة، إلا أنها بالمقارنة مع النظم السلطوية السابقة تعد أكثر قانونية وعقلانية.
لماذا التأكيد على تسامي الدولة الحديثة عن المجتمع؟ لأنها تعبر عن العقل مقابل المادة والموضوعية مقابل الذاتية، وعن الوحدة مقابل التشتت، وعن الصالح العام مقابل الفئات الضيقة، والأخلاق مقابل الشهوات (حسب التصور الهيجلي)،. الدولة هنا ترتفع فوق المجتمع على قاعدة قانونية موضوعية مسبغة عليه الشرعية والعقلانية مستندة على مبدأ الوحدة والمركزية؛ فالدولة هي الكيان الذي يحقق التوازن بين الصراعات الخاصة والفئوية داخل المجتمع. ولكي يتم استقلال هذه الدولة عن المجتمع لا بد من مبدأ فصل السلطات (التنفيذية والتشريعية والقضائية). وهذا الفصل ليس انعزالاً تاماً عن المجتمع، بل يتم الاتصال غير المباشر بالمجتمع من خلال تأثير الأفراد عن طريق العملية الديمقراطية (الانتخابات).
هذا المفهوم للدولة الحديثة هو ذو أصول أوروبية يقوم على فكرة القانون والعقلانية التي ارتبطت بشكل متلازم مع الرأسمالية وصعود البرجوازية. وانتقلت كثير من الهياكل النمطية لهذه الدولة إلى دول العالم الثالث (بما فيها البلدان العربية) عن طريق عدة مصادر، أهمها:
1 - الاستعمار.
2 - النظام الرأسمالي العالمي ومتطلباته لوجود دول من أجل التقسيم العالمي للعمل وتوزيع الإنتاج وتبادل التجارة.
3 - الانتشار بالنموذج، كالمحاكاة والاقتباس ونقل الخبرات والثقافة.
إلا أن انتقال الهياكل والأجهزة ومن ثم نشوء الدولة العربية وفقاً للنموذج الأوروبي، لم يصاحبه انتقال القيم الفلسفية للدولة ولا تنظيراتها الفكرية كالحرية والعقلانية ولا الأسس المبنية عليها كثير من القوانين اجتماعياً وأخلاقياً، لأن طبيعة الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي ظهرت بها مؤسسة الدولة مختلفة بينهما (الأوروبي والعربي). ذلك لا يعني أنه لم تحدث تطورات داخلية للبلدان العربية استدعت قيام الدولة الحديثة، قدر ما يعني أن البناء الحديث لجهاز الدولة هو نتاج عوامل خارجية أكثر منها داخلية (اقتصادية اجتماعية).
وهذا قاد كثيراً من المفكرين إلى استنتاجات متنوعة أهمها ما خلاصته: إذا كان النظام الرأسمالي وطبقته البرجوازية هما السبب الرئيس لنشوء الدولة الغربية الحديثة، وأن هذه الدولة تخضع غالباً للاقتصاد ومنطق السوق، فإنه على العكس في العالم الثالث (ومنه الدول العربية)، حيث الدولة الحديثة نشأت قبل نضج الاقتصاد المحلي ولم تتح فرصة لتراكم رأس المال الوطني. هذا النشوء أدى بالاقتصاد المحلي والسوق والعمليات المرتبطة بالإنتاج أن تخضع للسياسة ومنطق الدولة، وذلك سيصاحبه تحديات كبيرة في خلق التوازنات بين متطلبات الداخل (الاقتصاد المحلي) ومتطلبات الخارج (الاقتصاد الدولي). ولكن مناقشة الدولة والاقتصاد ستكون الأسبوع القادم بإذنه تعالى.