Al Jazirah NewsPaper Saturday  06/09/2008 G Issue 13127
السبت 06 رمضان 1429   العدد  13127
الذئب الذي التهم جورجيا
أنطونيو كاسيس

في حكاية الذئب والحمل التي رواها فيدروس الروماني منذ أكثر من ألفي عام، كان بوسع الذئب أن يلتهم الحمل بسهولة ودون أن يتفوه بكلمة، إلا أنه فضَّل أن يعدد (أسبابه) أولاً. فبدأ بتوبيخ الحمل لأنه يلوث المياه التي يشرب منها بالوحل (حتى مع أن الذئب كان يسكن في أعلى النبع). ثم زعم أن الحمل سبه في العام الماضي (في حين أن الحمل كان يبلغ من العمر ستة أشهر فقط). ثم زمجر الذئب قائلاً للحمل إنه لو لم يكن هو من فعل كل ذلك فلابد وأن أباه هو الفاعل؛ وبعد ذلك شرع الذئب في العمل (على الفور).

إن (الحجج) التي ساقها الذئب (لتبرير) تصرفه الشرير كانت بمثابة نوع من الترف الذي سمح لنفسه بالانغماس فيه. وفي الزمن الحاضر يُلزِم ميثاق الأمم المتحدة قانوناً الدول المستذئبة - والمعروفة أيضاً بالقوى العظمى - بتقديم المبررات التي دفعتها إلى استخدام القوة المسلحة.

وبطبيعة الحال تتعاظم ضرورة وأهمية هذا الالتزام حين يتصل الأمر بأيٍ من الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وذلك لأنه باستثناء الإدانة من جانب الرأي العام العالمي فلا وجود لأية عقوبات يمكن فرضها على هذه الدول الخمس مهما بلغت خطورة انتهاكاتها لميثاق الأمم المتحدة.

ساقت روسيا العديد من الأسباب لتبرير تدخلها المسلح في جورجيا، رغم أن الإقليمين الانفصاليين موضوع التدخل، أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، خاضعان للسيادة الجورجية. وتزعم روسيا أن تدخلها كان بهدف 1) منع الاعتداءات الجورجية على أوسيتيا الجنوبية؛ 2) إنهاء حملة التطهير العرقي ومنع جرائم الحرب التي ترتكبها جورجيا هناك؛ 3) حماية المواطنين الروس؛ و4) الدفاع عن شعب أوسيتيا الجنوبية استناداً إلى اتفاقية حفظ السلام الموقعة بين بوريس يلتسين وإدوارد شيفرنادزه في العام 1992م.

بيد أن كل هذه الأسس القانونية تعجز عن الصمود أمام التدقيق والفحص. لا شك أن جورجيا ارتكبت فِعلة متهورة حين أرسلت قواتها إلى أوسيتيا الجنوبية، إلا أنها لم تنتهك أي قاعدة دولية، ولو كانت سيادتها على أوسيتيا الجنوبية اسمية وليست فعلية. ولم نعلم بحدوث إبادة عرقية أو تطهير عرقي هناك؛ وإذا ما كانت جرائم حرب قد ارتُكِبَت بالفعل فإن هذا لا يبرر الغزو العسكري. فضلاً عن ذلك فإن أهل أوسيتيا الجنوبية يحملون الجنسية الروسية فقط لأن روسيا وهبتهم إياها مؤخراً بغير طلب منهم. ثم أن اتفاقية 1992 تفوض فقط بمراقبة التوترات الداخلية، وليس الاستخدام المكثف للقوة العسكرية.

على هذا فإن (المبررات) التي ساقها الكرملين فارغة، تماما كما كانت مبررات الذئب في حكاية فيدروس. فقد انتهكت روسيا الفقرة الثانية من ميثاق الأمم المتحدة، والتي تأمر البلدان الأعضاء بالامتناع في علاقاتها الدولية عن التهديد باستخدام القوة أو استخدامها فعلياً على نحو ينتقص من السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي دولة.

اسمحوا لي أن أعود إلى الحكاية التي تحمل العديد من المعاني الأخلاقية. أولاً، حين يُعمِل حَمَل مثل جورجيا ذكاءه فيطلب الحماية من ذئب آخر - حلف شمال الأطلنطي في حالتنا هذه - فلابد وأن يكون في غاية الحرص، وذلك لأن كل ذئب يحرس منطقة نفوذه، ويعقد العزم على (حماية) كل الحملان التي تدخل ضمن نطاق (سلطانه).

ثانياً، رغم أن القوى العظمى لا تتقيد في الواقع الفعلي بالقواعد الدولية الخاصة باستخدام القوة، إلا أنها تحترم (اتفاقاً غير مكتوب بين الذئاب) يقضي بالتصرف بالمثل. في العام 1999 انتهك الغرب هذا الاتفاق في كوسوفو: فقد هاجمت قوات حلف شمال الأطلنطي كوسوفو وبلغراد، في انتهاك لميثاق الأمم المتحدة (إلا أن هذا الهجوم كان مبرراً على الصعيد الأخلاقي، بسبب الحاجة العاجلة إلى وقف الأفعال الوحشية والفظائع التي كانت جارية هناك آنذاك)؛ ثم شجع الغرب بعد ذلك انفصال كوسوفو وباركه. ونتيجة لهذه السابقة الخطيرة لم تعد روسيا ملزمة بذلك الاتفاق غير المكتوب.

أخيراً، ولأن المدنيين في الأغلب هم الذين عانوا وما زالوا يعانون في جورجيا، فقد بات لزاماً على المجتمع الدولي أن يعمل على إيجاد حل دائم، طبقاً لما هو منصوص عليه في الاتفاق الذي يروج له الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. بيد أن الحل الدائم ليس بالأمر الوارد في المستقبل المنظور، وذلك لأن القوات الروسية، في انتهاك وقح لهذه الاتفاقية - والقانون العرفي الدولي - ما زالت باقية في أجزاء عديدة من جورجيا، وإلى ما هو أبعد من أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ولقد أعلن هذان الإقليمان استقلالهما الآن، وباركت روسيا هذا الانفصال الذي من المرجح أن يعمل كنقطة انطلاق لضمهما إلى روسيا.

لقد سلكت جورجيا المسار الذي تختاره الحملان (البلدان الصغيرة) عادة حين تواجه الذئاب (القوى العظمى)، فلوحت بالقانون كسلاح بين يديها، وأقامت الدعوى القانونية ضد روسيا أمام كل من محكمة العدل الدولية فيما يتصل بالمخالفات المزعومة لمعاهدة الأمم المتحدة بشأن التمييز العنصري، والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان فيما يتصل بالانتهاكات المزعومة للفقرة الثانية (الحق في الحياة)، والفقرة الثالثة (حظر المعاملة غير الإنسانية والمهينة) من المعاهدة الأوروبية الخاصة بحقوق الإنسان. ولأن جورجيا طرف في قانون روما المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، فقد كان بوسعها أن تطلب من مدعي المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في المزاعم الروسية بشأن جرائم الحرب والتطهير العرقي، علاوة على مزاعمها هي بشأن الجرائم التي ارتكبتها روسيا في حقها. ولكن العجيب في الأمر أنها لم تفعل ذلك، رغم أن مدعي المحكمة الجنائية الدولية أعلن أنه يقوم بدرس وتحليل الموقف في جورجيا.

من الواضح أن القانون في حد ذاته قد لا يكون قادراً على تقديم الحلول السليمة في مثل هذه الموافق المعقدة والخطيرة. وعلى هذا فلن يتسنى التوصل إلى حل دائم إلا من خلال السياسة والدبلوماسية. ولكن ما دام كل من الجانبين يرفع راية القانون الدولي، فربما تعمل القرارات القانونية الملزمة بشأن مثل هذه القضايا كأداة لدفع الأطراف نحو التوصل إلى اتفاق دائم.

أنطونيو كاسيس أول رؤساء المحكمة الجنائية الدولية المختصة بيوغوسلافيا السابقة، كما شغل لاحقاً منصب رئيس لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في دارفور، وهو حالياً يحاضر في مادة القانون بجامعة فلورنسا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت، 2008.
www.project-syndicate.org
خاص بـ (الجزيرة)



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد