صالح بن عبدالرؤوف رجل برجوازي نحيف ناهز الخمسين من عمره، يعيش في إحدى المدن الكبرى، وأفنى عمره في القراءة، وبالتحديد في كتب التنويريين الغربيين أمثال فولتير وجان روسو وجون لوك.. وصل إلى مرحلة يعتقد فيها
أنه أصبح لديه الاستعداد للخروج إلى الشارع، ولبدء مهمة تنوير المجتمع، وحل مشكلات الفقر والبطالة والعطش، ونقلهم إلى حيث الشفافية والعدالة والغنى...
قرر أن يخرج في هيئة مفكر تنويري شعبي، فرأى أن يلبس نظارة قراءة شديدة السماكة، وأن يضع عدة أقلام في جيبه الأمامي، وأن يحمل ميكروفوناً، ولم يجد أفضل من سيارة (هايلوكس) غمارتين، فيها فتحة في السقف لاستعمالها في تنقلاته.. اكتشف قبل أن يخرج إلى الشارع حاجته إلى مرافق يُعينه في مغامراته التنويرية، ويناصره في مواقفه المنتظرة من أجل نصرة حاجات المواطن وحقوقه، واختار رفيقا قديما يهوى القراءة ويجيد الكتابة في إحدى الصحف اليومية، وهو رجل متوسط الحال، ويتميز بطول القامة وضخامة الجسم..
كان أكثر ما يؤرق ابن عبدالرؤوف ما حدث من تطرف ديني وعنف في البلاد، وكان يضع من ضمن أولويات مهمته التنويرية محاربة الفكر المتطرف في المجتمع، وما أن خرج بسيارته الهايلوكس مع رفيق دربه إلى الشارع حتى لمح من بعيد مجموعة من النساء المتغطيات تماماً بالعباءات السود.. مفترشات الرصيف، ويبعن المكسرات و(الفصفص)، وهي حبوب يتم تقشيرها من أجل أكل اللب الذي في داخلها، ونظراً لخلو الشارع من الزبائن، فقد قررت بعضهن أن يتوسدن أيديهن، وينمن على جادة الرصيف... خُيل إليه أن هؤلاء هن الخلايا النائمة التي يتحدث عنها الإعلام، فقرر الاتجاه صوبهن، وأخذ يتحدث معهن بصوت عالٍ من خلال الميكرفون، ويحذرهن من التطرف، وأن العباءة على الرأس وغطاء الوجه رمزان للإرهاب ومخططاته، وأخبرهن أنه ممنوع عليهن البيع على الرصيف إلا إذا كشفن وجوههن مثلما هو الحال في بلاد الغرب.. أصاب الهلع بائعات الفصفص، ولم يجدن مخرجاً من هذه المواجهة إلا بالهروب حافيات الأقدام تاركات خلفهن الفصفص والمكسرات وأحذيتهن التي قطعتها حرارة الأرصفة..
شعر الفارس التنويري بنشوة الانتصار في معركته مع بائعات (الفصص)، وقرر المضي في طريق التنوير والنضال من أجل قضاياه العادلة، وما أن أقبل على أحد الجسور المعلقة حتى شاهد أعدادا غفيرة من العمالة البنغالية والأفغانية متجمهرة تحت الجسر، كانوا يجلسون في صفوف متراصة.. عُرف عن صالح بن عبدالرؤوف اهتمامه بقضايا العمل في بلاده، وبتشدد مواقفه وآرائه في هذه الشأن بسبب حجم البطالة التي يعاني منها المواطنون، لذا دأب منذ زمن على متابعة الأعداد الغفيرة من العمالة الأجنبية، وارتفاع نسب البطالة عند المواطنين، وكان ما يزيده إصراراً في مهمته تضاعف أرقام العمالة عاماً بعد عام.. لذا عزم على السير في اتجاه تجمهر العمالة، وعلى بدء معركته التنويرية ضد البطالة التي أحرقت أجيالا بعد أجيال من أبناء وطنه.. أوقف السيارة أمام تجمع العمالة الوافدة، وأخرج ميكرفونه ثم صعد على سطح السيارة، ثم بدأ يخطب ويذكرهم بحماسة مفرطة في الوطنية، وبأنهم أي العمالة سبب البطالة في البلاد، وأن ما يحدث من فقر وتشرد لبعض المواطنين هم أيضاً سببه الرئيسي، ثم شدد في خطابه التنويري ضد العمالة الوافدة على أن أمامهم أحد الخيارات التالية، وهي إما أن يتخلوا عن أعمالهم ووظائفهم للمواطنين، أو أن يغادروا البلاد خروجاً بلا عودة، ثم يتعهدوا ألا يقبلوا عروضاً جديدة للقدوم مرة أخرى إلى الوطن.. كانت بدايته هادئة نوعاً ما.. لكنه استطرد في خطابه، وزادت نبرة صوته حدة عندما بدأ بمهاجمة البنغاليين ونعتهم بالمجرمين واللصوص الذين يسرقون المنازل والمخازن والسيارات والكابلات الكهربائية، وأنه لم يعد لديهم خيار إلا الرحيل فوراً من الوطن..
كان يحدثهم بلغة عربية فصحى، ولم تظهر على وجوه العمال المتجمهرين أي ردود فعل، ويبدو أنهم لا يفهمون الفصحى.. فقرروا أن يتركوه يتحدث إلى رفيقه، ولأنه يقف في طريق خروجهم من تحت الجسر، تدافعوا فوق سيارته، ودفعه أحد الأفغان، وسقط الفارس من أعلى سيارته على الرصيف، وطار شماغه في الهواء، ودار عقاله في الشارع حتى توقف قسراً تحت عجلات إحدى السيارات المارة.. انتصب المفكر قائماً، ونفض الغبار من على ثوبه.. وظهر مبتسماً، وبدت عليه علامات النصر المظفر على جحافل الغرباء الوافدين.. ركب سيارته ومضى واثقاً الخطوة، ومتأكداً تماماً أن العمالة الوافدة ستبدأ بمغادرة أرض الوطن قريباً جداً..
توالت مغامرات صالح بن عبدالرؤوف، وهو يجر وراءه رفيق دربه المغلوب على أمره، وما إن فارق بسيارته الجسر حتى ظهرت له على أحد مخارج الطريق صفوف طويلة من (الوايتات)، ومفردها وايت، وهي السيارة التي تحمل على ظهرها خزان ماء كبيرا، كان اللون الموحد لجميع السيارات هو الأزرق.. وكان قد علِم أن سعر (الوايت) وصل إلى المئات من الريالات، وأن العطش أصاب المدينة، وأن المواطنين أصبحوا معتادين على الوضع الجديد، وهو أن يدفعوا أكثر لكي يحصلوا على الماء.. وصل صالح إلى الموقع، وصار يحصي عدد الوايتات التي تقف في طابور طويل ينتهي عند تجمع حاشد لسائقي (الوايتات).. كان معظمهم من الإخوة السودانيين.. سار صالح في اتجاههم عازماً على خوض معركته الفاصلة ضد السائقين الذي يعتقد أنهم سرقوا مياه المدينة، وجمعوا الثروات الطائلة بسبب أزمة العطش المفتعلة، ولما أقترب منهم، ترجل من سيارته هو ورفيق دربه، ثم وقف عابس الوجه.. ومندهشاً من حركة الوايتات التي لا تتوقف عن العمل على مدار الساعة..
أخذ يؤنبهم، ويحذرهم من عواقب استغلالهم لأزمة المياه في المدينة، وأنهم خلف احتكار المياه في هذا الخزان العملاق الذي يبيعون منه الماء للمواطنين، فالماء متوفر، لكنه لا يصل إلى المنازل بسبب جشع هؤلاء السائقين.. أخذ يمر على (الوايتات) ويفرغها من الماء.. ارتفعت أصوات السائقين، وزادت حدة عصبيتهم.. ولم يتحملوا ما يفعله.. فهجموا عليه وعلى رفيق دربه، إلا أن الفارس التنويري تراجع مسرعاً إلى الوراء، ثم فر هارباً في أحد الشوارع الخلفية، تاركاً صاحبه الضخم وحيداً يتلقى ضربات سائقي الوايتات...
هذه كانت محاكاة سعودية لفكرة رواية دون كيشوت للمؤلف الإسباني ميغيل دي سرفانتس سافيدرا. (1547- 1616م).. دون كيشوت الذي فكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين، وذلك بمحاكاتهم، والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض، ويخرجون لكي ينشروا العدل، وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى، والمساكين.. خرج على حماره وخاض معارك ضد طواحين الهواء الذي توهم أنها شيطان له أذرع، ثم دخل مع الأغنام في معركة شهيرة متوهماً أنه جيش جرار، وأنه بهزيمته له سيحقق العدل..