الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
أكد رئيس قسم الفقه بكلية الشريعة بالرياض الدكتور حسين بن عبدالله العبيدي أن الرخص التي منحها الله عز وجل للمريض والمسافر بالإفطار في شهر رمضان, لا علاقة لها بوسيلة السفر ويسرها، لأن العلة في الرخصة هي السفر لا المشقة.
وقال د. العبيدي: إن شهر رمضان شهر عبادة وعمل وإنتاج ونشاط، لا شهر كسل ونوم وتعطيل مصالح العباد.. مضيفا أن شهر رمضان شهر العبادات، ومضاعفة الأجور.. جاء ذلك في حوار مع د. حسين العبيدي وفيما يلي نصه:
* يحدث خلاف سنوي في رؤية هلال رمضان، مما يسبب اختلافاً في بداية الصوم بين دولنا الإسلامية.. كيف يثبت هلال رمضان؟ ولماذا الاختلاف الدائم؟.
- فرض الله جل وعلا الصوم وجعله ركنا من أركان الإسلام، وبين النبي صلى الله عليه وسلم أحكام الصيام جلية واضحة ومما بينه ما يتعلق بثبوت هلال رمضان، فقال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه أبوهريرة رضي الله عنه: (إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً) متفق عليه، وفي لفظ آخر: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمي عليكم فأكملوا العدد)، وفي لفظ: (فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين)، وفي لفظ من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الشهر تسع وعشرون فلا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له)، ففي هذه الأحاديث والروايات الصحيحة بيان لما يثبت به دخول هلال رمضان، وأنه لا يثبت إلا برؤية هلاله أو إكمال عدد شعبان ثلاثين يوماً، وهو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (فإن غمَّ عليكم)، أي حال بينكم وبين رؤية الهلال غيم ونحوه، وبناء على ذلك نقول: يثبت شهر رمضان برؤية هلاله، فإن لم ير فإنهم يكملون عدد شعبان ثلاثين يوماً، ثم يصومون كما في هذه الأحاديث، ويحصل الاختلاف بين الناس لوجود اختلاف في حساب منازل القمر، وولادته، وأماكن رؤيته بعد الولادة، وغير ذلك مما يتعلق بعلوم الفلك، وإلا فإن الشرع جعل علامة دخول رمضان واضحة بأحد الطريقين الماضيين: إما رؤية هلال رمضان، ولا يشترط رؤية كل إنسان، بل يكفي جميع الناس رؤية عدلين أو شاهد عدل على القول الصحيح، فإذا تمسك الناس بهذا الطريق وعملوا به فلا ينبغي أن يحصل الاختلاف، وكذا مما يسبب الاختلاف حصول خلاف أهل العلم في مسألة مهمة، وهي اختلاف المطالع واتفاقها، وهل رؤية أهل بلد تكفي لجميع البلدان، أو لكل أهل بلد رؤيتهم، وهذه مسألة خلافية قوي فيها الخلاف، فمن يرى اتفاق المطالع قال: إن رؤية أهل بلد رؤية للجميع، فإذا رأى الهلالَ بلدٌ لزم جميع البلاد الصوم، ومن قال باختلاف المطالع قال: لأهل كل بلد رؤيتهم، ولا يلزمهم الصيام برؤية غيرهم بل حتى يروه أو يكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.
* في ظل يسر وسائل السفر الحديثة بالطائرة، أو السيارة أو غيرها يختلف المسافرون حول رخصة الفطر، فمنهم من يصوم ومنهم من يفطر.. فكيف نفض الاشتباك بينهما؟
- رخص الله - جل وعلا - في كتابه الكريم بالفطر للمريض والمسافر. فقال تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وبين أن ذلك لإرادة التخفيف علينا، فقال: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}، وبناء على ذلك، فمن كان مريضا يشق عليه الصوم أو يضره، أو كان مسافراً سفراً تقصر في مثله الصلاة، فإنه يترخص بالفطر أياً كانت وسيلة سفره، لأن العلة في الفطر هي السفر وليست المشقة، لان المشقة لا تنضبط، لذا فلا يعلل بها فمتى سافر الإنسان السفر المعتاد، فله أن يترخص بالفطر مهما كانت وسيلة سفره، وعليهما قضاء ما أفطراه {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، وقد دلت سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أفطر في سفره ولم يبق من النهار إلا قليل، وكان من هديه الفطر في السفر أخذاً بإطلاق الآية التي لم تقيد نوع السفر ولا وسيلته.
* يتكاسل بعض الناس عن أعمالهم في رمضان بحجة التفرغ للعبادة، فما حكم الشرع في ذلك؟.
- شهر رمضان شهر عبادة وجد ونشاط والعبادة في الشرع معناها شامل وواسع، فكل من عمل عملاً صالحاً، ونوى به التقرب إلى الله تعالى فهو عبادة بمعناها العام، ولو تأملنا شهر رمضان زمن النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الأئمة لوجدناه شهر الفتوحات والغزوات والنصر للإسلام والمسلمين، ففتح مكة كان في رمضان، وغزوة بدر يوم الفرقان كانت في رمضان، وغير ذلك مما يدل على أنه شهر عمل وجد ونشاط، وليس شهر تخاذل وتكاسل عن الواجبات، بل قد يعد الانقطاع عن العمل بحجة الصوم عزوفاً عن العبادة وكرهاً لفريضة الصيام.
* تشير الإحصاءات إلى أن إنفاق المسلمين في رمضان أضعاف إنفاقهم في غيره من الشهور رغم أنهم يأكلون فيه وجبتين وليس ثلاث، فما حكم الشرع في هذه السلوكيات الغريبة؟.
- شهر رمضان شهر العبادات والخيرات ومضاعفة الأجور على شتى أنواع القرب، من صوم وصلاة وصدقة وذكر وتلاوة وغير ذلك، وهو موسم للخيرات وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات، إلا أن البعض من المسلمين خرج عن هذه السنة، فصرف رمضان إلى موسم للتشهي والتلهي عنه بأنواع المغريات والملهيات، فهناك من طغى عليه متابعة الأفلام والمسلسلات، وهناك من طغى عليه التنوع في المأكل والمشارب حتى جعلوا رمضان فرصة للتنوع والتلذذ بكافة أنواع المأكولات والمشروبات، وديننا وسط بين الإسراف والتقتير، فيجب علينا أن نفهم رمضان وحكمة مشروعيته كما فهمها رسولنا - عليه الصلاة والسلام - وسلفنا الصالح المنطلق من قول الله جل وعلا حينما فرض الصيام علينا وعلى الأمم قبلنا قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، أي تحصل لكم التقوى بهذا الصيام، ولا تحصل التقوى إلا بفعل الطاعات والانكفاف عن المعاصي والذنوب.
* كثرت المشاكل والارتباطات في عصرنا الحاضر، ولهذا لا يستطيع كثير من الناس الاعتكاف فترة طويلة في المسجد، وخوصاً في الثلث الأخير من الليل، فماذا نفعل حتى لا نحرم من هذا الثواب على السنة النبوية في الاعتكاف؟
- الاعتكاف سنة مؤكدة واظب عليها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، وهي سنة دل على مشروعيتها القرآن الكريم، فقال تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}، وينبغي للمسلم ألا يحرم نفسه من هذه السنة فيعتكف العشر الأواخر كلها أو بعضها، فإن لم يتيسر له ذلك بسبب كثرة مشاغله وارتباطاته، فقد ذكر أهل العلم أنه لا حد لأقل الاعتكاف فيمكن أن ينوي الإنسان الاعتكاف إذا دخل المسجد للصلاة والذكر والبقاء فيه ولو مدة يسيرة، ويتأدب بآداب المعتكف من ترك الانشغال بأحاديث الدنيا وأمورها فيحصل أجر الاعتكاف بقدر عمله، لأن الاعتكاف هو ملازمة المسجد بنية التقرب إلى الله تعالى، فلذا يحصل الإنسان الاعتكاف بهذه النية والعمل اليسير، وذلك من ليل أو نهار.
* كيف تحقق فريضة الصوم هدفها في حياة المسلمين الآن، وخاصة بعد أن كثرت المعاصي والذنوب، وانصرف كثير من المسلمين عن هدي الإسلام في تصرفاتهم وسلوكياتهم اليومية؟.
- فرض الله جل وعلا الصيام علينا كما فرضه على الأمم قبلنا فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالصيام سبب للتقوى ومحو السيئات، ودخول الجنات والوقاية من عذاب الله تعالى، فينبغي للمسلمين أن يفرحوا بقدوم هذا الشهر، ويسألوا الله أن يبلغهم صيامه وقيامه، وأن يعينهم على ذلك، كما كان سلفنا يفعلون ذلك، وينبغي للمسلمين إذا بلغهم الله تعالى الشهر أن يفرحوا بذلك، وأن يعمروه بشتى أنواع القرب والطاعات، وأن يبتعدوا كل البعد عن المحرمات، فهو شهر تفتح به أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب النار، وينادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، كما ينبغي للمسلم أن يوطن نفسه على العمل، وأنه قد لا يدرك رمضان غير تلك السنة، لذا دعا جبريل - عليه السلام - على من أدرك رمضان فلم يغفر له فدخل النار، وقد أمن على ذلك محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب على المسلمين أن يحفظوا رمضان ويعرفوا حرمته، فهو سيد الشهور، شهر تضاعف فيه الحسنات، وإن المغبون كل الغبن من دخل رمضان وخرج فلم يغفر له، ولا يمكن أن تحقق فريضة الصوم هدفها في حياة المسلمين إلا إذا فهم المسلمون رمضان على حقيقته على مراد الله تعالى، ومراد رسوله - عليه الصلاة والسلام - وكذا سلف الامة الذين إذا دخل رمضان تركوا سائر الأعمال المشروعة وأقبلوا على القرآن الكريم تلاوة وتدبراً وعملاً، فهو شهر القرآن، وشهر العتق من النار، وحينما يعرف المسلمون أن رمضان يأتي ليعلم المسلمين دروساً في الصبر والنصر والتغلب على النفس وحظوظها ومشتهياتها وزجرها عما تألفه، وأنه ضيف يمر بالمسلمين كل سنة مرة ثلاثين يوماً ثم يرحل، فليحسن المسلمون وفادته وضيافته، بإيداعه بالأعمال الصالحة، والانزجار عن المحرمات، حتى يرحل شاهداً لهم بأداء هذه الفريضة، ورعاية حقها.