في كل خريف يعود آلاف الطلاب إلى المدارس والجامعات لك يتعلموا أسطورة قديمة باعتبارها حقيقة ثابتة. إنها الأسطورة التي ساعدت في إذكاء نار الحروب والتي ربما تعترض سبيل كل الجهود الرامية إلى إيجاد الحلول لأضخم مشاكل العالم. ورغم أن أصل هذه الأسطورة ليس واضحاً، فقد أثبت العلم زيفها، وحولتها العولمة إلى مفارقة تاريخية عتيقة. إنني في الواقع أتحدث عن أسطورة الدولة القومية.
إن أسطورة الدولة القومية تتعارض مع فكرتين. الأولى راسخة، وهي فكرة الدولة. والثانية غامضة، وهي فكرة القومية أو (الأمة). إذ إن المنفعة أو المصلحة المترتبة على وجود الدولة أمر واضح، فهي عبارة عن مبدأ تنظيمي ضروري يسمح للناس بتقاسم مواردهم من أجل الصالح العام وتعبئة جهودهم ضد أي تهديدات مشتركة، سواء كانت تلك التهديدات في هيئة فيضانات على سبيل المثال أو جيوش غازية. والدولة أيضاً تلعب دور المحكم النهائي في فرض القانون. والحقيقة أن سلطة الدولة أصبحت في ازدياد، كرد فعل في مواجهة العولمة ونتيجة للثروات المتنامية من أسواق الطاقة.
بيد أن الدولة القومية باعتبارها أساساً لفن الحكم تعمل على حجب الطبيعة الحقيقية لأعظم التهديدات التي تواجه البشرية. فالتلوث، والإرهاب، والأوبئة، وتغير المناخ ظواهر عالمية، ولا تحترم السيادة الوطنية، وعلى هذا فهي تستلزم التعاون العالمي.
إن أصل فكرة الدولة القومية غير واضح. ويجمع أغلب الناس على أن هذه الفكرة كانت تشكل وسيلة لتعزيز حكم الدولة لمجموعة من الناس وإضفاء الشرعية عليه، سواء كان تعريف حدود تلك الدولة من خلال لغة، أو ثقافة، أو عرقية مشتركة. ولكن المشكلة هنا أن الخطوط التي ترسم حدود أي مجموعة ثقافية نادراً ما تتوافق مع الكيان السياسي. فضلاً عن ذلك فإن مبدأ الوحدة الوطنية لا يفسر الاختلافات والصراعات الداخلية.
إن الهويات تتسم بالتميع داخل الأمة الواحدة، حتى من دقيقة إلى أخرى. منذ خمسة عشر عاماً أمضيت الصيف في وادي اللوار بفرنسا. ومثلي كمثل العديد ممن اعتادوا السفر إلى فرنسا، أستطيع أن أشهد بأن الناس في الريف الفرنسي يؤمنون بأنهم، وليس أهل باريس، يشكلون فرنسا (الحقيقية).
إن الانقسام بين القلب والمحيط الخارجي شائع في العديد من الدول. بيد أنني لاحظت أيضاً أن هوية المرء قد تتبدل أثناء سير حديثك معه. فتعبير (نحن الفرنسيين) قد يفسح المجال أمام (نحن الغال) أو (نحن اللاتينيين) أو (نحن البريتونيين) أو (نحن الفرانكيين) أو (نحن الأوروبيين)، اعتماداً على موضوع الحديث. كان تبديل الهوية على هذا النحو المتواصل أمراً مذهلاً بالنسبة لي، ولكن بعد تفكير وجدت أن الأمر منطقي: فجميعنا نذكر مقولة شارل ديغول الشهيرة: (من الصعب أن يحكم المرء دولة تصنع 246 نوعاً من الجبن). كثيراً ما نتصور أن الصين تحكمها أغلبية من أسرة هان. بيد أن هذه المجموعة من الناس متنوعة لغوياً وثقافياً، بل وحتى وراثياً. كما اقترح المؤلف إيان بوروما مؤخراً، فإنه من غير الواضح ما يعنيه الناس بالصين. فتايوان دولة مستقلة إلا أنها رسمياً تعتبر جزءاً من الصين. ولقد انتشرت الثقافة واللغة الصينية في مختلف أنحاء العالم. ويقول بوروما إن (الصين) أكثر من مجرد دولة قومية. كما زعم المفكر التايواني لي هسياو فينغ مؤخراً أن كلمة (صيني) مجرد تعبير بلا معنى، اختُلِق لتبرير حكم الأقليات. إنه لمن العسير أن نتخيل أمة محصورة في دولة واحدة، أو دولة تحتوي على أمة واحدة. يزعم البعض أن اليابان مثال للأمة القومية. إلا أنني في عدد لا يحصى من المناقشات المحتدمة ذكَّرت العديد من اليابانيين أن الشعب الياباني يتألف في الواقع من الآينويين، والكوريين، والصينيين، والفلبينيين، والريوكويين. وكان ردهم الأخير دوماً هو: (أجل، ولكننا نريد أن نؤمن بأن هناك ما يسمى بالشعب الياباني). حتى أنهم قاموا بدراسة خاصة لتحديد الهوية اليابانية. إن أسطورة الدولة القومية، مثلها في ذلك كمثل الأديان، تتطلب إيماناً مطلقاً. ويزعم المفكر الياباني يوشيهيسا هاغيوارا أن أسطورة الدولة القومية مصيرها إلى الزوال، لأنها لا تقوم على أي أساس من الصحة، ولسوف يمهد زوالها الطريق أمام مفهوم عام مفاده أننا جميعاً مجرد أفراد نشكل جزءاً من مجتمع عالمي. وهو يعرب عن أسفه لأن اليابانيين مغرمون على نحو خاص بفكرة القومية (اليابانية)، الأمر الذي ربما يجعل من اليابان (البطل الأخير) لفلسفة محتضرة. كثيراً ما تظهر التعبيرات عن هذه الفكرة في الثقافات الشعبية. شاهدت مؤخراً إعلاناً تجارياً عن بطاقة ائتمان يصور أباً يسافر مع ابنه إلى النرويج لتتبع أصول عائلتهما. وبعد أن يرتبطا عاطفياً بالمشروبات والمأكولات المحلية والكنزات الصوفية، وما إلى ذلك، يكتشفان أن عائلتهما من السويد. وإذا كان لي أن أقوم بمثل هذه الرحلة فربما أسافر إلى أيرلندا لكي أكتشف أن أسلافي الأيرلنديين كانوا في الأساس من اسكتلندا. ولكن من أين جاء الاسكتلنديين؟ ربما عبروا بحراً آخر. إن أسطورة الأصل تستمر بلا نهاية إلى أن نصل إلى الجد المشترك الأعلى لكل البشر، أو ربما تقودنا الرحلة إلى أسطورة فعلية بيضة سوداء في الصين، أو رمح في المحيط في اليابان، أو التفاعل بين النار والثلج في فرنسا. إذا كان صناع السياسة والقرار راغبين في التعامل مع المشاكل التي يعيشها العالم اليوم بنجاح، فلابد وأن تكون آفاق تفكيرهم أعرض اتساعاً. وربما كانت البداية الأمثل في هذا المسعى إعادة النظر في مفهوم الدولة القومية، الذي يتعلم التلاميذ في مختلف أنحاء العالم أنه الوحدة الأساسية في العلاقات الدولية. ولكن إلى جانب النظريات البرجماتية الأساسية المرتبطة بتوازن القوى، لابد وأن تتضمن مناهج تدريس العلاقات الدولية مقدمة في أخلاقيات الشؤون الدولية - الفلسفة الأخلاقية، وحقوق الإنسان، والدور الذي تلعبه المؤسسات غير التابعة للدول. كما أكد الفيلسوف بيتر سِنغر في كتابه (عالم واحد)، فإن تشكل جبهة موحدة ضد أضخم المشاكل التي تواجه العالم اليوم سوف يتطلب تحولاً جوهرياً في المواقف - بعيداً عن ضيق الأفق وفي اتجاه إعادة تعريف المصلحة الذاتية. والحقيقة أن المصلحة الذاتية المستنيرة قد تكون قائمة على الانتماء لدولة ما، ولكن إعادة تعريف المصالح أمر ضروري حتى تشتمل على مبادئ عالمية مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. وإذا كنا نريد لهذه المصالح أن تكتسب اعترافاً عالمياً، فلابد وأن نسقط من حساباتنا أسطورة الدولة القومية إلى الأبد.
ديفين ستيوارت مدير مركز إبداعات السياسية العالمية التابع لمجلس كارنيغي للأخلاق في الشؤون الدولية، ورئيس تحرير موقع policyinnovations.org، وهو أيضاً زميل مساعد لدى مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية CSIS.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - معهد العلوم الإنسانية، 2008 /خاص بـ(الجزيرة)