الشيء الوحيد الذي نجح فيه المدعو: (أبو بكر ناجي)، مؤلف ما يسمى بكتاب: (إدارة التوحش)، هو اختياره لهذا الاسم الشاذ، مثل شذوذ الأفكار المطروحة فيه، ووحشة الصياغة التي عرض بها هذه الأفكار المنفرة والمتنافرة، فالاسم وافق المسمى، والكتاب يقرأ من عنوانه كما يقال، وهذا الكتاب (الوحشي)، قدم نفسه بنفسه من عنوانه ابتداءً.
الوحشة والتوحش والوحش، من المفردات الجافة حد الفزع، التي توحي للسامع بالأمكنة القفر غير المسكونة إلا من الجن إن وجدت فيها، ومثلها يرتبط عادة بما توحش من الحيوانات غير المستأنسة، يقابلها مفردات لينة مثل الأنس والتونس والأنسة، وواضحة صلة هذه التراكيب بالإنسان، لأن الإنسان بطبعه يأنس بغيره ويؤنسه، فإذا جاء كلام فيه جفافة وجلافة، فهو ينبئ عن طبيعة متوحشة، وهذه هي الرسالة التي حملها كتاب (إدارة التوحش) من أول كلمة فيه حتى آخر كلمة. أن يتوحش المرء من حياته حتى ترخص في نظره وتهون عليه، فيصبح الموت عنده أحب من حياته إليه، وحتى يستسهل وضع نهاية لعمره، ولو بتفخيخ نفسه وتفجيرها، وقتل الناس جميعاً دون تمييز أو اكتراث لأي أمر.
لم أقرأ كتاباً في حياتي، فندمت على ضياع وقتي في قراءته، مثلما وقع لي مع ( إدارة التوحش).
الأمر عندي يتعلق عادة بما يتكون لدي من نتائج وانطباعات عما أقرأ، ومثل هذا الكتاب، لا يمكن أن يكون أكثر من أفكار مخبولة، ودروس مجنونة، هدفها غسل أدمغة السذج من الناس، ودفعهم إلى التزهيد فيما أحل الله من متع الحياة ومباهجها، وتحريضهم على كره وبغض من لم يكن على طريقتهم وتفكيرهم، ثم تصل بهم إلى قتل أنفسهم من أجل أحلام وأمنيات عبيطة، تُعرض في قوالب إنشائية تحريضية، لا تتوفر على أي قدر من معايير بحثية قويمة، أو منهجية علمية سليمة، لكن شيئاً واحداً يبرز في هذا الطرح المتهالك من أول صفحة حتى آخر صفحة فيه، وهو أنه كان بمثابة تعرية جديدة لنوايا القوم وخططهم، أولئك الذين ظلوا يردحون فوق رؤوسنا زمناً طويلاً باسم الدين ونصرة الإسلام والمسلمين، ولكنهم في الواقع كانوا وما زالوا، يسعون إلى غاية واحدة تبرر كل كذبهم وزيفهم وخداعهم، وهي: (قم لأقعد مكانك)..!
قم لأقعد مكانك.. كانت غاية التنظيم الإخواني في مصر في الخمسينيات الميلادية وما بعدها، ضد الحكومات المصرية، ثم أصبحت منهجاً لهم ولمن تفرع عنهم، من (خونجية وصحوية وتبليغية وسرورية وقطبية)، وغيرها في بلدان عربية كثيرة، وبالأخص في المملكة العربية السعودية، ولأن مثل هذا الهدف الغارق في دماء البشر لا يتحقق لهم إلا بالتمكن من مفاصل القرار في الدولة والمجتمع، وبتكديس الأموال، عن طريق المؤسسات التي يديرونها، وحشد المناصرين والمقاتلين في وقت واحد، ثم العمد بعد ذلك إلى سفك الدماء، فالتنظيم الحركي لا يمانع في قتل كل الخصوم، وحتى من يشك في ولائهم للحركة من بين صفوفه، يصفيهم.. (الدم.. الدم.. الهدم.. الهدم).. الدم والهدم، تكررت في كتاب (التوحش) مرات كثيرة، وهي واحدة من ركائز العمل في مراحل الحركة الإسلامية، للوصول إلى الهدف النهائي المبتغى، وهو مرحلة (التوحش)، يوم أن يصبح كل الناس، في جزء من دولة، أو في دولة كاملة، أو في أكثر من دولة، في قبضة (المتوحشين) من أمراء الحركة وقادتها، أي تحويل كافة شرائح المجتمع إلى (قطيع مطيع)، يبحث فقط عن لقمة عيشه، فلا يجدها إلا من فتات (أصحاب الفضيلة)، من (قادة التوحش)، الذين يحلمون ويعملون على إسقاط كافة الحكومات (المرتدة) في العواصم العربية أولاً قبل الإسلامية، واستلام زمام الأمر في نهاية الأمر.
بكل اختصار.. تقوم (فكرة التوحش) -الذي يؤسسها ويُنظِّر لها من أطلق على نفسه هذا الاسم الحركي: (أبو بكر ناجي) في كتابه الذي تتداوله الجماعات المتشددة والإرهابية ووجد مع مجموعات إرهابية قبض عليها في المملكة مؤخراً- تقوم فكرته على خلق جو من الجفاء والكره والحقد والبغض بين من أسماهم المجاهدين وبين كل من لم ينضم إليهم. هذه مرحلة أولى. المرحلة الأهم، هي التوحش في مجابهة الآخر، بالتنكيل والقتل والتدمير والهدم، وخلق الفوضى، وعدم الجزع أو التذمر أو الشكوى، من هذا السلوك الوحشي مع البشر، والمضي في هذا الطريق الموحش حتى نهايته، إما بالفناء، أو خلق دولة التوحش التي هي غايتهم وحلمهم.
ومن يقرأ هذه الأفكار الواردة في هذا الطرح العجيب الغريب، ليس بوسعه أبداً فصلها عن محيطها الذي ولدت ونمت وترعرعت فيه، ولا سلخها من ثقافة سائدة أنتجتها وأفرزتها، وقد كانت لها أماً حاضنة حنونة، وربما بقيت بقية من حضن وحنان لدى هذه الأم، لم يتوحش حتى اليوم، من مولود ولد وشب وترعرع وهو متوحش إلى حد التفجير والقتل بين يدي أمه الحنون التي ولدته..!!
في المقدمة -وهذه بوابة دخول أفتحها إلى (إدارة التوحش)- يتحدث الكاتب عن حيرته من مشروعات إسلامية تُطرح -يقصد مشروعات مسالمة- مع أن الأمر محسوم في نظره، بما يرى من استخدام القوة، و (الدم.. الدم.. الهدم.. الهدم..).
قال نصاً: إن من كل تيارات الحركة الإسلامية، لم يضع مشروعات مكتوبة إلا خمسة تيارات، بعد إخراج تيار التبليغ والدعوة، وتيار سلفية التصفية والتربية -السلفية الصوفية- وتيار سلفية ولاة الأمر وغيرهم، سنجد أن التيارات التي وضعت مشروعات مكتوبة وتصلح للنقاش لما لها من واقع عملي، هي خمسة تيارات:
1- تيار السلفية الجهادية.
2- تيار سلفية الصحوة الذي يرمز له سلمان العودة والحوالي.
3- تيار الإخوان - الحركة الأم. التنظيم الدولي.
4- تيار إخوان الترابي.
5- تيار الجهاد الشعبي، مثل حركة حماس وجبهة تحرير مورو.. وغيرها.
(الكتاب ص3)
وللحديث بقية.
assahm@maktoob.com