في أحد مقالاتي السابقة تحدثت عن والدتي (طرفه)- رحمها الله- كمثال للمجتمع التقليدي الذي يتوارث التقاليد، وكذلك الفكر. ففكر أمي هو فكر ابنتي، وهو كذلك فكر حفيدتي وهكذا دواليك، ولا يختلف الأمر البتة عن فكر بقية الحواضر الأخرى الناطقة بالعربية، أي أن التطور في المفاهيم، ودفعها إلى مزيد من التفتح والرقي، لم يفلح فيه لا التعليم، ولا التواصل بالعوالم والثقافات العالمية.
كلنا يتفق على أن هناك نظرة دونية للمرأة في مجتمعاتنا تسيطر على تفكيرنا، وتتحكم في تعاملنا مع المرأة من حيث كونها إنسانا غير كامل الأهلية أي إنسان ناقص. لا فرق بين جيل الأب وجيل الابن؛ بل لا فرق بين جيل الجد وجيل الحفيد.
أغرب ما جاءتني من ردود أفعال على ذكر اسم والدتي في ذلك المقال رأي لأحد الأصدقاء من الذين تعلموا في أمريكا، وتخرج من هناك؛ قال: (ذكر اسم أمك ماله سنع أبدا)؛ ولا أحتاج أن أعلق على هذه الملاحظة، خاصة وأن صديقنا (المتحضر) تلقى تعليمه في منبع الحضارة والتمدن.
وأتذكر أن الصغار في جيلي إذا أراد أحدهم أن يقلل من شأن أحد أقرانه كان يناديه باسم (أمه)؛ بعد أن يُصغر اسم الأم من قبيل الإمعان في الاحتقار. فهناك ولد (نوير)، وهناك ولد (لويلوه)، وولد (طريفه)، وولد (هيّيا)، وهكذا. وكان الطفل آنذاك يأنف من هذا الاحتقار، ويعتبر مجرد ذكر اسم أمه (عيباً) ومنقصة يأبى أن يقبلها.
ومازال هذا الاحتقار للمرأة، واعتبار أن ذكر اسم المرأة، أي امرأة، (ماله سنع)، يتجلى في أكثر من مشهد.
الصديق والزميل الأستاذ عبدالله بن بخيت تحدث في أحد مقالاته عن عدم ذكر اسم الزوجة في بطاقات دعوات الأفراح، والاكتفاء بذكرها ككريمة فلان دون الإفصاح عن اسمها، أما الداعية فهي إما حرم فلان، أو أنها أم فلان، وهذا يدخل ضمن إطار أن المرأة في مجتمعنا لا حق لها حتى في هوية مستقلة، فهي (ملحقة) دائما إما بوالدها، أو بأخيها، أو ولدها، وحينما تتزوج تلتحق باسم زوجها كونها (حرمه) المصون، دون أي إشارة إلى اسمها، أي أن قيمتها كإنسان مستقل، ومهما كان وضعها الاجتماعي تستمدها من قيمة (الذكر)؛ وبالتالي لا قيمة لها دون حضور الرجل، وكل من اعترض على قرار وزارة الداخلية إصدار بطاقة هوية مستقلة للمرأة هم من هذه النوعيات.
وهذه - بالمناسبة - من العادات (الغريبة) حتى على تاريخنا القريب. الملك عبدالعزيز - رحمه الله - كان يفاخر بأنه (أخو نورة)، ولم يجد في ذلك عيباً؛ بل كانت مصدر فخر واعتزاز له.
ولا يغيظني إلا بعض من يُجهد نفسه، وفكره، وبحثه ليجد لهذه العادات المتخلفة القميئة غطاء شرعياً. حينما تقرأ تاريخ المدينة زمن الرسول- صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين، ولو قراءة عابرة تجد واضحا للعيان أن المرأة كانت آنذاك عنصراً حاضراً وفاعلاً ومحترماً ومستقلاً؛ ولا علاقة له (البتة) بهذه العادات المتخلفة التي لا ترى المرأة إلا بوتقة لتفريغ الشهوات، أو خادمة، أو مجرد كائن يعيش على هامش الرجل ليس في حقوقه وواجباته فحسب، وإنما حتى في هويته.
وأنصح في هذا المجال بقراءة كتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، لمؤلفه عبدالحليم أبو شقه ورغم ان المؤلف (إخواني) الهوى - وربما أن هذا أهم عيوبه - إلا أنه بيّن في كتابه جوانب مضيئة لهذه الفترة (المرجعية) من تاريخنا، أجده يُلبي شغف من يريد أن يتعرف عليها. إلى اللقاء.