تأتي زيارة الوزيرة رايس العشرين لفلسطين المحتلة وللمنطقة منذ انعقاد مؤتمر أنابوليس في نوفمبر 2007م، تتويجاً لفشل الدبلوماسية الأمريكية في تحقيق انتصار دبلوماسي يغطي على إخفاقاتها العديدة التي منيت بها قبل رحيلها النهائي، حيث أعلنت استحالة تحقيق السلام الفلسطيني الإسرائيلي قبل نهاية العام 2008م، كما سبق أن التزمت الإدارة الأمريكية عند دعوتها وعقدها لمؤتمر أنابوليس للسلام في الشرق الأوسط، ولكنها في نفس الوقت حرصت على إبقاء باب المفاوضات مفتوحاً واعدة بنقل ملفها للإدارة الأمريكية المقبلة، معللة ذلك بأن الطرفين المتفاوضين بذلا ويبذلان جهوداً حثيثة وجادة من أجل التوصل للسلام وأن لديهما الرغبة الأكيدة بذلك، ولكن هناك العديد من العقبات الداخلية والخارجية وكذلك الموضوعية التي تحول دون إنجاز اتفاق سلام خلال العام الحالي وإنهاء نزاع عمره يزيد على ستين عاماً.
لقد تفاءل البعض عند انعقاد مؤتمر أنابوليس بصدق النوايا الأمريكية بالتفرغ أو بإعطاء أولوية هامة وخاصة لحل القضية الفلسطينية مرتكزة على تطبيق خطة خارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش ومبادرة السلام العربية، وقد توفر دعم وزخم دولي دبلوماسي واقتصادي كبير من أجل إنجاح المساعي الأمريكية في هذا الشأن، ولكن سرعان ما تراجع الاهتمام الأمريكي وتولدت لديه اهتمامات بشأن قضايا أخرى تتقدم على اهتمامه بحل القضية الفلسطينية، ورغم الزيارات المكوكية التي قامت بها د. رايس إلى فلسطين المحتلة وبعض دول المنطقة ومواظبة فريقي المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية على الالتقاء أسبوعياً بمعدل لقاء إلى ثلاثة لقاءات إلا أن جميع الأطراف تتقاطع عند نتيجة واحدة وهي عدم إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام نهائي خلال العام 2008م، وفي هذا الشأن أكد د. عريقات كبير المفاوضين الفلسطينيين أن (الوقت لا يجب أن يكون سيفاً مسلطاً علينا أثناء عملية التفاوض، والمهم هو أن نتفاوض ونتفاوض حتى نصل إلى الاتفاق الذي يلبي حاجة شعبنا ويستعيد معه حقوقه المشروعة)، في نفس الوقت الذي سعى فيه الجانب الإسرائيلي إلى (مرحلة أو تجزئة) المفاوضات للتهرب من بحث قضايا أساسية مثل القدس واللاجئين، والتوصل إلى اتفاق مرحلي جديد لا يشمل تلك القضايا التي يعتبرها حساسة أو التوصل إلى ما يسمى باتفاق (رف) ينفذ على مراحل زمنية ذلك ما تم رفضه مباشرة من الجانب الفلسطيني الذي أكد على موقفه بضرورة التوصل إلى اتفاق شامل ونهائي يشمل جميع القضايا دون استثناء.
إلا أن الحقيقة لو تجاوزت الإدارة الأمريكية عقدة الانحياز للمواقف والرؤى الإسرائيلية ونظرت إلى أهمية التوصل لحل لمشكلة فلسطين والتي تمثل مفتاح الحل لمشاكل المنطقة ولو تجاوزت دور الممول ومشرف العلاقات العامة على المفاوضات في أن تكون راعياً وشريكاً تفاوضياً يجسّر المواقف بين الطرفين بما يتوافق وقرارات الأمم المتحدة ومبادئ مؤتمر السلام في مدريد وأنابوليس وعناصر خطة خارطة الطريق لكان من الممكن للطرفين استثمار الزمن الذي أتاحه عام 2008م للتوصل لاتفاق سلام نهائي يؤدي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية وفق خطة خارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش ومبادرة السلام العربية.
ومن أهم العوامل والأسباب الرئيسية التي حالت دون تحقيق التوصل إلى اتفاق السلام المنشود بين الطرفين تبرز سمة المراوغة والمخادعة التي تطبع السياسة الإسرائيلية في هذا الشأن والساعية إلى كسب مزيد من الوقت لخلق وقائع جديدة على الأرض تحول دون تحقيق المطالب الفلسطينية وتجعل من الرؤية والمواقف الإسرائيلية أمراً واقعاً لا مفر منه سواء في ما يتعلق بالاستيطان أو الجدار أو بشأن مدينة القدس وكذلك بشأن قضية اللاجئين والتي تريد أن تستبق التفاوض بشأنها انتزاع اعتراف فلسطيني وعربي ودولي بأن إسرائيل هي (دولة يهودية) عندها ينتهي أمل وحلم العودة للاجئين الفلسطينيين، يضاف إلى ذلك النفاق والفساد السياسي الذي يطبع ويسم الطبقة السياسية في إسرائيل والتي تستغله سياسياً للتغطية على مراوغتها وتهربها من الإقرار والتسليم باستحقاقات اتفاق السلام النهائي مع الفلسطينيين خاصة ومع العرب عامة.
وجرى أيضاً استثمار حالة الضعف والانقسام السياسي للفلسطينيين منذ انقلاب حركة (حماس) للتشكيك بقدرة الطرف الفلسطيني على الوفاء بالتزاماته في حالة التوصل إلى أي اتفاق سلام في ظل الوضع الفلسطيني الراهن، بل راهنت أصوات وجهات عديدة في إسرائيل وأخرى إقليمية ودولية على حركة (حماس) التي تحكم قطاع غزة أكثر من مراهنتها على قدرة حكومة السلطة والرئاسة في رام الله خصوصاً بعد أن جرى مؤخراً توقيع اتفاق الهدنة مع حركة (حماس) منذ أكثر من شهرين وتأكيد حرص (حماس) على احترامه واستمراره في مقابل تأمين الوقود والمواد الغذائية لقطاع غزة واستمرار تحكمها فيه، وتستذكر هذه الأصوات والجهات إعلانات حركة (حماس) لاستعدادها لتوقيع هدنة مع إسرائيل دائمة أو لمدة عشرين سنة!! ولذا تفضل هذه الأصوات والجهات الإسرائيلية بل تسعى إلى أن تتفاوض إسرائيل مع حركة (حماس) على أن تتفاوض مع السلطة الوطنية ومع منظمة التحرير الفلسطينية التي حددت وأعلنت هدفها من التفاوض أنه يتمثل في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في عام 67 بشكل تام وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشريف والتوصل إلى حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين متفق عليه وفق القرار 194 العام 1948م.
لكل ما سبق أخفقت الدبلوماسية الأمريكية ومعها طرفا التفاوض في التوصل لاتفاق السلام النهائي المنشود خلال العام 2008م ومني الجميع بخيبة الأمل التي انعقدت على مؤتمر أنابوليس وخطة خارطة الطريق ومبادرة السلام العربية.
ولأجل أن تكون المفاوضات جدية وجادة وغير عبثية ومثمرة لا بد أن تولي الولايات المتحدة الأمريكية حل الصراع في الشرق الأوسط أولوية وأهمية أكبر وأن تلعب فيها دور الراعي والشريك للطرفين المتفاوضين وفق أسس عملية السلام والمبادئ التي تحكمها ووفق خطة خارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش ومبادرة السلام العربية، وأن تخرج إسرائيل مسألة السلام مع الفلسطينيين ومع العرب من بازار النفاق والفساد السياسي للقوى السياسية الحاكمة والمعارضة فيها، وأن تدرك أن مصلحة إسرائيل وشعوب المنطقة في سلام يقوم على أساس الشرعية الدولية وأن تعلم أنه من غير المتوقع أن تنال إسرائيل الأمن والسلام دون الالتزام بتنفيذ الشرعية الدولية وقراراتها بشأن الصراع العربي الإسرائيلي وبشأن القضية الفلسطينية، وعلى الفلسطينيين أن يدركوا أيضاً أنهم لن ينالوا حقوقهم ولن يتمكنوا من التوصل مع إسرائيل إلى اتفاق أو تسوية مشرفة تحقق لهم آمالهم وطموحاتهم وتعيد إليهم حقوقهم وفق الشرعية الدولية وهم على ما هم عليه من انقسام وتشرذم وتناحر وضعف، ولذا قبل أن يلوم الفلسطينيون أحداً عليهم أن يلوموا أنفسهم وأن يعالجوا وضعهم الداخلي وينهوا حالة الانقسام والاتفاق على رؤية وبرنامج سياسي واضح ومحدد وملزم لجميع القوى الفلسطينية، يستند إليه المفاوض الفلسطيني في مفاوضاته مع المفاوض الإسرائيلي ومع الراعي الأمريكي، عند ذلك فقط قد يكون من الممكن أن يتجدد الأمل وأن يتمكن المتفاوضون من التوصل إلى اتفاق سلام أو تسوية نهائية تضع حداً للنزاع وتصل إلى حل مقبول للقضية الفلسطينية وفق الشريعة الدولية وخطة خارطة الطريق ورؤية الرئيس بوش ومبادرة السلام العربية.
مدير عام مكاتب اللجنة الشعبية الفلسطينية
pcommety@hotmail.com