تعلو جدران بيوت هذه المدينة يوماً بعد آخر . دهشت اليوم وأنا عائدة من العمل أن وجدت منزلاً في حي صلاح الدين بالرياض والذي لم يكتف صاحبه ببناء سور واحد بل بنى اثنين فوق بعضهما البعض متماثلين تماماً، بحيث تسأل نفسك أية أسوار نكبل أنفسنا بها عدا ما تمتلئ به هذه البيوت من أسرار؟
حقاً فالبيوت عوالم وأسرار لكنها تتحوّل أحياناً إلى ساحات للصراع أو الإهمال أو التوجُّس أو اللامبالاة، حتى يتجاوز البيت لمفهومه وقيمته، ويصبح ضرباً من الانتظار وغابة قلق لا أكثر، كم من هذه البيوت المضاءة تنطوي على أنفس قلقة متوجّسة مما يحمله لها غبار مستقبل غير واضح في علاقتها بالطرف الآخر.
كم من هذه البيوت تحمل نذر التهدم والعطب وهي تبدو في أحسن حالات تماسكها ظاهرياً، وهو ما يولد ظاهرة منتشرة بشكل ملحوظ، وقد نطلق عليها مسمى: الطلاق العاطفي .
والمقصود هنا بتعبير الطلاق العاطفي التباعد والفقدان التدريجي للشعور بالمودّة والمحبة والرغبة بين الزوجين، رغم كونهما لا يزالان تحت سقف واحد.
والأسباب لهذه الظاهرة المتكررة متعددة وشاسعة باتساع واختلاف نماذج الحياة من حولنا يمكن أن يكون أحدها انشغال أحد الطرفين أو كليهما بهمومه ومشاغله حتى داخل الأسرة، فتجد على سبيل المثال أنّ المرأة تنشغل بالعناية بأطفالها وشؤون بيتها وتنسى وجود شريكها فلا تعيره ذات الأهمية، إذ تظن أنّ من يحتاجها الآن هم الأطفال الصغار وهو كبير بالغ لا يحتاجها قدرهم فيتم إهماله ليس عن قصد بل لعدم وعي باحتياجات الطرف الآخر أو لأنها تظن صادقة أنها تخص وقتها بنبل كبير لمن يحتاجها فعلاً وهم الأولاد وإدارة المنزل والشغالة والسائق وعلاقات الأهل وواجبات أهله وواجبات أخواتها .. الخ الخ الخ!!!!!!!
من جانبه قد يجد الرجل نفسه وقد غرق في عمله حتى الثمالة، كما أنه يقوم على رعاية أم مريضة أو أب يوشك على وداع دنياه، أو هو وصحبه في زحمة ولا وقت للزوجة، فهي في كل الأحوال موجودة طوال الوقت فلِمَ العجلة؟؟؟؟؟
سبب آخر يمكن لنا تسميته بالنمو المتنافر داخل المؤسسة .. بمعنى أننا وحتى داخل مؤسسة الزواج ننمو من خلال الخبرات المختلفة التي نتعرّض لها والتجارب الحياتية أو العملية والمهنية التي نتعرّض لها، فنجد أنّ الزوج مثلاً بجانب عمله الحكومي قد يدخل في أعمال خاصة أو مشاريع أو عمل تطوعي للمؤسسات، مما يتيح له السفر والتوسع في مداركه ورؤيته للعالم من حوله، وقد يلتحق بدورات ويتعلّم لغات وأساليب حياة جديدة، في حين تبقى المرأة على ما هي عليه دون أن تشعر بالسيل الهادر من حولها، مما يدفع الزوجين تدريجياً للتنافر وعدم الشعور بتقارب المفاهيم وأساليب الحياة والرؤية للأشياء وهكذا .. والأمر نفسه ولكن بنسبة أقل قد يحدث مع الزوجة التي قد تتطوّر في معارفها وذوقها، إمّا من خلال العمل أو الالتحاق ببرنامج دراسي مختلف مما يغيِّرها ويطوِّر رؤيتها للأشياء، في حين يبقي الرجل على طريقته وأساليبه وتقليديّته، فتضيع بوْصلة كليهما فلا هما يمتلكان نفس الذوق ولا يستمتعان بنفس الأطباق، كما يتنافر الذوق والسلوك والرؤية حتى يحدث غياب الانسجام في أبسط مشاوير الحياة!
مسببات أخرى قد تتعلّق بما هو مادي حولهما، فقد يعلق الزوجان بالتزامات مالية (شراء بيت) (أقساط سفر أو سيارة) أو مرض طفل أو إعاقته، مما يجعلهما أسيرين للمشكلة، فينسيان علاقتهما وشعورهما بذاتهما كزوجين، وكفريق يتآلف بالمودة والتقارب بدل التنافر واللوم الخفي كلٌ للطرف الآخر على ما حلّ بطفلهما أو ما آلت إليه أحوالهما المالية.
أمر آخر هو التعوُّد .. الكثير من الزيجات تقع في مطب الملل من تكرار نفس الأساليب، كما أنّ الطرفين لا يتوافر لهما الإبداع الكافي أو الخبرات الحياتية المتنوعة أو فقط لمجرّد الراحة والشعور بالأمان في نطاق ممارسات عاطفية وجنسية محدّدة، مما يوقعهما تدريجياً أسرى للتباعد والملل .. وتلعب طبيعة التنظيم الاجتماعي القائمة في المجتمع والمبنية على إيجاد عوالم مفصولة تماماً لكلٍ من المرأة والرجل في الأفراح والأتراح إلى تقليص الوقت المشترك المتاح للطرفين للاستمتاع بعلاقاتهما المشتركة، بما يقلل خبراتهم المشتركة بالضرورة ويقلل مستوى التواصل ومواضيع الحديث والذكريات المشتركة .. إنّ لكلٍ عالمه وصداقاته وهمومه ومشاغله .. فماذا يتبقى للمشترك لما كان يجب أن يكون شراكة دائمة سوى الزَّبد الذي لا يبقي.
التباعد أو الطلاق العاطفي ... حفرة خانقة حين تقع الأسرة في حبائلها، ورغم أنها أشد تأثيراً على الأطفال وأقل تدميراً لكلا الطرفين من الناحية الاجتماعية والشكلية إلا أنها مدمرة لأبسط مفاهيم العلاقات الممكنة بين رجل وامرأة، كما أنّ تيارات الغضب المكبوت وشحن الأعصاب المبطنة في كل كلمة وسلوك بين الرجل والمرأة، إنما تمثل قوة تدمير سلبية تغطي بظلالها القاتمة المنزل والأطفال وكلا الطرفين سواء كرجل وأنثى أو كبشر.
الحياة الزوجية مسئولية ضخمة وليست قطاراً نستقله إلى الأبد .. إنه طريق شاق يستحق بذل الجهد من كلا الطرفين لتطوير نفسيهما وأساليبهما للحفاظ على الحياة كنهر متجدد، وهذا من أصعب الأمور في الزواج والتي لا يتكلم عنها أحد عند بدء الزواج، فلا أحد يذكِّرنا بالزوج ليس كزوج بل كرفيق يمكن الاستمتاع معه بدل التعوُّد عليه، والأمر نفسه بالنسبة للزوج الذي يأخذ وجود الزوجة كمسألة حتمية دائمة ومملة، بما قد يفسر في بعض منه هذه النكات التي لا تنتهي في رؤية الرجل لزوجته مقارنة بمن يتمناهنّ ممن لا يستطيع الحصول عليهنّ!
هل هناك من حلول سحرية لقضية مؤرقة يضج بها المكان؟؟
لا أظن، ويبقي غياب مؤسسات الإرشاد الزواجي Marital counseling عائقاً أساسياً في قدرة الأطراف على المعالجة، إذ إنّ أفضل ما توفره هذه المؤسسات هو إعادة التواصل بين الأطراف وإيجاد أرضية مشتركة يقف عليها الطرفان ويجدان أهدافاً ومسببات تدفع للاستمرار، وليس فقط للحفاظ على المؤسسة أو لخاطر الصغار.
ربما يبدو الحل هو قناعتنا بتفرد الشخص الذي أمامنا وعدم أخذنا الأشياء كأنها دائمة، ولنتذكّر أننا نتذكّر الشيء المختلف ويبقى أثره في حين لا يلفت انتباهنا المتعود عليه فلماذا نريد أن نكون ضمن المعتاد سواء كنا الزوج أو الزوجة ... ربما يجب أن نعترف بصعوبات الحياة المعاصرة وارتفاع التوقعات الشخصية لدي الطرفين كل في ما يخص رفيق دربه.
ربما يجب أن نعترف بأزمة التواصل التي تخنق العلاقات الإنسانية سواء بين الرجل والمرأة أو بين كافة أطراف الأسرة، مما يستدعي الضرورة لكثير من مؤسسات الخدمات العلاجية والزوجية التي يضج بها عصرنا الحاضر ويفتقدها تماماً واقعنا المحلي وكأننا جميعاً بخير!!