Al Jazirah NewsPaper Friday  29/08/2008 G Issue 13119
الجمعة 28 شعبان 1429   العدد  13119
البروفيسور المسيري.. مفكر القرن (3)
د. عبدالله البريدي

في خضم كتابتي عن مفكر القرن الدكتور عبدالوهاب المسيري، ينبغي التذكير بأن ما أكتبه ليس بحثا متعمقاً عن نتاج الدكتور المسيري ولا تحليلاً تفصيلياً لأبحاثه ولا لإسهاماته الاجتماعية أو جهاده الإصلاحي؛ بقدر ما هي (فلاشات) سريعة علها تنير بعض الزوايا التي قد لا يكون بعضهم قد تبصر بها جيداً،

ولاسيما أن بعضهم يتساءل عن سر وصفي له بمفكر القرن وعن حيثيات ذلك أو مسوغاته معتبرين ذلك ضرباً من المبالغة أو المجاملة أو الفذلكة اللفظية... وأنا لا ألوم أولئك الإخوة ولا أعتب عليهم؛ حيث إن أغلبهم لم يطلع على النتاج الهائل للمسيري ولم يقف على القدرات المذهلة لذلك المفكر العملاق ومنهجه الفريد في التشخيص والتحليل والتصنيف وإعادة التركيب والتفسير وسك المصطلحات بطريقة منهجية دقيقة وبأسلوب يصور لنا كيف يصطاد الحقائق ويعريها في مشهد يبرهن فيه على (عمق البساطة)... فالحقائق هي أبسط الأشياء في الوجود!

ما أكتبه هنا ليس بحثاً أكاديمياً، بل إشارات مكثفة، مع حرصي على أن تتسم بالتلقائية والعفوية فهي أقرب إلى نفسه وأليق بمنهجه... وهنا أود الإشارة إلى أنه عقد في فبراير 2007م مؤتمر حول النتاج الفكري والبحثي للمسيري شارك فيه عدد من المفكرين والباحثين، ونحن الآن ننتظر خروج تلك الأبحاث في كتاب مستقل...

هنالك مجموعة من المسائل الفكرية والمنهجية أحسب أنه يتعين علينا تذكرها جيدا ونحن نكتب عن الدكتور المسيري فهي ذات دلالات هامة في التعاطي مع نتاجه الفكري والبحثي الضخم، ويمكن تناول أهم تلك المسائل من خلال المحاور التالية:

1- أن الدكتور المسيري بجانب الصدق والتجرد الذي كان يتلبس بهما كان يؤمن المسيري بأن العلم لابد أن ينبثق من المنظومة القيمية ويحافظ عليها والعلم لديه هو ما كان نافعا للبشرية، وقد كان الدكتور عبدالوهاب (يستشهد في هذا المضمار بقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا رابليه: (إذا لم يقترن العلم بالضمير أدى إلى خراب النفس)، ويتذكر استعاذة خطيب جامع الحبشي بدمنهور بالله من علم لا ينفع) وقد وجه المسيري سؤالا ل(روبرت أوبنهايمر) - مكتشف القنبلة الذرية - حول شعوره حين نجح مشروعه (العلمي)، فرد عليه مؤكدا على (خطورة انفصال التجريب العلمي عن الأهداف والأغراض الإنسانية، وضرورة النظر إلى الإنسان باعتباره الغاية النهائية، وليس مجرد وسيلة من الوسائل) (انظر: عمرو شريف، رحلة عبدالوهاب المسيري الفكرية، ص 216-217). ارتباط العلم بالقيم قضية متأصلة في فكره وتحليله بل ونكته أيضاً التي لا تمل!

2- حاز المسيري على قصب السبق في الاتصاف بسمة المفكرين الكبار وهي (التأمل المتعمق)، ونراه يؤكد على أن تلك السمة من أهم العناصر التي شكلت شخصيته المنهجية، ويقول: إنه أصيب بتلك السمة (في يوم من الأيام في طفولتي أو بدايات الصبا - ربما في سن الثانية عشرة - حينما أدركت مقولة الزمان وأننا نعيش داخله، وأن حياتنا هي الزمان. وداء التأمل لا يزال مهيمنا عليّ، وجعلني قادرا على الانفصال عما حولي وأن أنظر إلى نفسي من الخارج وألا أقبل أي شيء إلا بعد تفسيره) وقد اقترنت تلك السمة بقدرة فائقة على الترميز وإعادة تشكيل النظرة إلى الأشياء - وتلك صفة رئيسة للإبداع -، وفي هذا المعنى يقول عن نفسه (.. ومن العناصر الشخصية الأخرى التي ساهمت في تحديد توجهاتي الفكرية أن بعض الأشياء كانت تكتسب قيمة رمزية في عقلي غير قيمتها الوظيفية، فالمكرونة كانت بالنسبة لي هي السحر بعينه - كنت أتصور في طفولتي أنها هي طعام أهل الجنة - ولذا كان تناولها يعني تجربة شبه روحية لا علاقة لها بإشباع الحاجة البيولوجية للطعام.. أما الأرز، فكان مرتبطا في ذهني بالطمأنينة وبالعودة إلى المدينة. ولم أتخلص قط من هذا الميل نحو الترميز.. وأتصور أن هذا الميل نحو الترميز ساعدني كثيرا على الانفصال عن بيئتي المباشرة، إذ خلقت لي الرموز عالمي الخاص، كما أن الرمز ولا شك شكل من أشكال النموذج، فهو عنصر من العالم المادي، ولكنه يعلو عليه إلى أن يصبح علامة مكثفة على عناصر كثيرة، قد يبدو لأول وهلة وكأن لا علاقة بينها) (الاقتباسات الواردة في هذه الفقرة مأخوذة من: المسيري يتحدث عن حياته، موقع إسلام أون لاين).

3- يرى الدكتور عبدالوهاب المسيري بأن الأشياء الهامة في حياته تستحق كل العناية مما يجعله يطور لها (طقوسا) خاصة بها، فهو يقول (إذ أميل لأن يصبح كل حدث مهم في حياتي جزءا من طقس خاص جدا وأقوم أنا بتطويره؛ فكنت في طفولتي أبدأ استذكاري بأن أضع زهرة في مزهرية، أو أحلم بها إن لم يكن هناك زهرة، وحينما تقدمت بي السن طورت مفهوم الشاي غير البيولوجي، وهو أي قدح من الشاي لا أحتاج إليه من الناحية المادية ومع هذا أشربه مع صديقي كي آنس به).. و(قد تطور هذا فيما بعد ليصبح مفهوم الأبوة غير البيولوجية حين أقوم بتبني بعض الأيتام من ضحايا العصر الحديث).. ثم يذكر بأن طقس (ساعة الصفاء) من أهم طقوسه ويعني بها (المقدرة على الانسحاب من الزمان، بحيث يعيش الإنسان لحظات ليست كاللحظات خارج الزمان، ومن ثم يمكنه أن يستعيد تكامله وإنسانيته - بعد أن يكون قد فقد بعضا منهما في معترك الحياة وتفاصيلها التي لا تنتهي-، على أن يظل الإنسان واعيا تماما بأن هذه لحظات مؤقتة وحسب، وأنها لابد أن تنتهي) (المسيري يتحدث عن حياته، موقع إسلام أون لاين).

4- تتسم كتابة الدكتور المسيري بأنها أقرب إلى (الكتابة الشفاهية)، مما يجعل كتابته أكثر عذوبة وأقرب إلى النفس، ولاسيما أن انطلاقاتها مؤسسة على منهجية دقيقة ونظرات فلسفية متعمقة،، (فحين تقرأ كتاباته تشعر كأنك جالس إليه تسمعه، يحاكيك وتصغي إليه، ويقرأ ما يدور في رأسك فيستدرك ويشرح ويجيب، ويسمع رأيك فيناقشك بود وترحاب) (انظر: المسيري: قسمات المفكر وسمات التفكير، عمار علي حسن، مؤتمر المسيري: الرؤية والمنهج، 2007). ولا أحسب أن المطلع على نتاج الدكتور المسيري بشيء من الاهتمام والتركيز إلا وسيصاب بعدوى البساطة والتلقائية التي لا تتنكر للعمق ولا تخذله! ويزداد ذلك التأثير ويترسخ بالجلوس إليه والاستماع إلى حديثه العذب، ويشكل ذلك جانبا من جوانب التأثير ذي الطبيعة الكارزمية للمسيري.

5- يمتلك الدكتور عبدالوهاب قدرات مدهشة على تطويع (المجاز) لنقل فكرته في قوالب مباشرة، ويؤكد على أهمية (المجاز) في عملية الإدراك حيث يذهب إلى أن وظيفة المجاز ليست مقتصرة على (الزخرفة اللفظية)، فالمجاز - كما يقول - (جزء أساسي من التفكير الإنساني، أي جزء من نسيج اللغة التي هي جزء لا يتجزأ من عملية الإدراك، فنحن نتحدث عن عين الماء ويد الكوب ورجل المائدة، وهذه كلها صور مجازية نستخدمها دون أن نشعر، نظراً لشيوعها وبساطتها، ولا يمكن إدراك بعض الظواهر الإنسانية المركبة ولا الإفصاح عنها دون اللجوء إلى المجاز المركب) (انظر كتابه: اللغة والمجاز، ص 13)، وهو لا يكتفي بامتلاك مثل تلك القدرات الكبيرة على تطويع المجاز، بل يحرص بشدة على التقاط (الصور المجازية) التي تتلاءم مع ثقافة القارئ وخبراته الحياتية، مما يمنح أفكاره قابلية كبيرة لأن تجتاز حدود الاعتراض إلى منطقة القبول والتسليم، ومن ذلك نجده يقول حين يصور لنا مشكلة الأزمة المعرفية - الإبستمولوجية - (مشكلة المسلمين أنهم تنبهوا للاختراق الأخلاقي ولم يتنبهوا للاختراق المعرفي، وهو ما يمكن أن نرصده في سلوكيات وتصرفات الناس وفي حياتهم اليومية، فأثناء إقامتي في السعودية سألت شابا عاش في ألمانيا 25 عاما عن رأيه في المصارعة الحرة، فقال: الخطأ أنهم لا يرتدون الشورتات الشرعية. وإحدى المتسابقات في مسابقة ملكات الجمال كانت ترتدي البكيني قالت لها أمها وهي معها: (حينما تدخلين يا ابنتي ادخلي برجلك اليمنى واقرئي الفاتحة) (انظر: إسلام أون لاين- المسيري: مؤامرة صمت تواجه إبداع الفكر الإسلامي).

6- الدكتور المسيري مباشر وشفيف، فهو لا يجيد المناورة ولا الخداع بل يتحدث وبصوت عالٍ عن أفكاره حتى لو أغضبت البعض، ومن ذلك - مثلاً - ما ذكره حول التيار العلماني العربي، فقد أكد على أن ذلك التيار يتعمد تجاهل أطروحاته ونتاجه، فهو يقول وبالنص: (الخطاب الإسلامي لم يتطور بما فيه الكفاية إلا مؤخرا، وكانت الساحة خالية للعلمانيين، الفكر الإسلامي يشهد حالة من الإبداع والنضوج والتجديد، وهو ما يتمثل في كتابات عدد من المفكرين الإسلاميين الذين استطاعوا أن يخوضوا بكتاباتهم في كافة المسائل الحياتية، فلم يعد الفكر الإسلامي عاجزا عن التعاطي مع مشاكل الإنسان المعاصر، ولكن ما يحدث هو أن هناك تجاهلا لهذه الكتابات من قبل مفكري العلمانية، وهو ما أسميه مؤامرة الصمت، وهو نفس ما يحدث مع كتاباتي عن العلمانية، فلا يوجد واحد من العلمانيين يمكنه أن يفند كتاباتي أو يرد عليها، ولكن هو فقط يتجاهلها، وهذا أيضا ما حدث مع موسوعتي - اليهود واليهودية والصهيونية -؛ لأن الصهاينة واليهود لم يستطيعوا أن يردوا عليها؛ لأنها ستفتح عليهم أبواب جهنم، وما فعلوه معها هو التجاهل) (انظر: إسلام أون لاين - المسيري: مؤامرة صمت تواجه إبداع الفكر الإسلامي). وهذه الشفافية لا تقتصر فقط على الجانب الفكري كما يفعل أكثر المثقفين بل تمتد لتصل إلى الجوانب السياسية والاقتصادية، إلا أنه كان يحرص على أن يكون ذلك داخل الأطر الوطنية بمقوماتها وثوابتها كحال المصلحين الحقيقيين.

وسنواصل حديثنا عن.. المفكر الإنسان.. المفكر الكارزمي.. مفكر القرن.



beraidi2@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد