مع زيادة القدرة على الحركة وتعدد المهمات، بما في ذلك الرغبات والتوجهات، في عالم تزداد وتتسارع فيه التقنيات، قلل جميع ذلك من قدرتنا ورغبتنا في التعامل مع القضايا المعقدة، فما تأثير ذلك وما معناه بالنسبة لمدركاتنا العامة؟
يرتبط ذلك بمسألة التركيز وهذا يرتبط بالإدراك، ومن ثم اتخاذ توجه معين. نلاحظ ذلك في مقاعد الدرس أو حول طاولات الاجتماعات وعندما نقود سياراتنا، ضعف التركيز يضعف الإدراك ومن ثم التوجه، وهنا يمكن القول إن التركيز يمكن اعتباره مهارة من المهارات التي يمكن اكتسابها والتدرب عليها.
الانتباه، المرادف للتركيز، يعتبر مفتاح التعليم، وكلما كنا أقل انتباها، كلما أوجدنا بيئة من صرف الانتباه وفرط الحركة. والملاحظ على بعض الناس معرفة الحقائق مع عدم القدرة على إدراك مضامينها، ومن الدراسات التي يقوم بها علماء الاجتماع في مجال الثقافات العامة للناس، ما تكشف عن ضعف في الثقافة في مجالات مثل: السياسة والجغرافيا والحوادث العالمية، ولو تم الإلمام بالحقائق فلا تدرك مضامينها.
فكيف تبنى الوطنية وتحقق الكفاءة الإنتاجية للمواطن بناء على ضعف في التركيز وفي الإلمام بالقضايا والقدرة على تحليلها ومن ثم إدراك ما وراءها؟ ولا يجب أن يفوت علينا أن من ضمن تعاليم ديننا الحنيف وجوب التركيز في أهم العبادات (الصلاة) وضرورة بذل أقصى قدر من الانتباه فيها وعدم السهو عنها، فالأساس مستمد من الإسلام بحمد الله.
وبالرغم من توفر التقنيات وتطورها، من حاسبات وهواتف وبرامج وأنظمة، ومعلوم فائدتها باعتبارها أجهزة اتصالية، إلا أنها تساعد في الوقت ذاته على عدم الانتباه، ولم يعد لدينا الوقت لأن نفكر أو أن نستخدم أجهزتنا وأدواتنا بحكمة، مع أننا نتعلم باستخدام تلكم الأدوات، ولكننا لا نستخدمها للتوقع ولإدراك المفاهيم، قد نكون أقدر من أي وقت مضى على الوصول إلى المعلومة، ولكن هناك مشكلة في إدراكها وفهم ما وراءها، يجب بذل جهد كبير للتعامل مع المعلومة والتفاعل معها، إلى درجة المشادة، لكي نصل إلى عمق في المناقشات والأطروحات.
من يعمل في الجامعات يلحظ ضعفا في قدرة الطلاب، بما في ذلك طلاب الدراسات العليا، على إدراك الموضوع أو الحكم عما إذا كانت المعلومة صحيحة أم لا، ولذلك يجب أن يدرس الانتباه كمهارة في عدد من مراحل التعليم، وليس هذا فحسب بل من الضرورة بمكان تدريس (مهارات التفكير النقدي)، والتدريب على مهارة اتخاذ القرارات، ومن ثم مناقشة تلكم التي تم اتخاذها.
نحن في عصر يحتاج إلى نوع جديد من التفكير المناسب له، نحاول التعامل مع المعلومات الكثيرة التي يعيشها المجتمع، ولهذا فنحن في أمس الحاجة إلى المزيد من التركيز، وإلا سوف تتضعضع الحضارة البشرية أكثر. وهذه الحضارة التي نعيشها هي حضارة لمجتمع يحرص على الاستهلاك أكثر من حرصه على الإنتاج، ولا تنحصر المشكلة في الشباب بل تشمل شرائح متعددة من المجتمع، ومن الملاحظ أن الأطفال يقضون معظم أوقاتهم في مشاهدة التلفاز أو مزاولة الألعاب الإلكترونية، أما المطبوع من المعلومات فمن النادر أن يتعاملوا معه، وبشكل عام نحن في حاجة إلى (معرفة عصرية)، تجمع بين الحصول على المعلومة، ومن ثم إدراكها واكتساب مهارة التعامل معها.
ولو حصرنا الموضوع في شريحة الشباب من مجتمعاتنا لأمكن أن نطرح مفهوما يحتاج إلى تناول وتفصيل أكثر، ألا وهو ما يمكن تسميته ب (فوضى الوقت في حياة الشباب) يجنح مجتمعنا، كالعديد من المجتمعات المعاصرة في شرق الأرض وغربها، نحو استهلاك مادي، ولا ينظر للمستقبل بل يركز جل اهتمامه على الوقت الحاضر، وفي الختام يمكن طرح بعض التساؤلات ذات الارتباط بموضوع هذه المقالة: هل عدم التركيز له علاقة بعدم توفر الوقت؟، هل يشغل الوقت بأمور لا تساعد على التركيز بل على ضده؟ وهل عدم التركيز جاء نتيجة لمتغيرات اجتماعية واقتصادية وثقافية؟، أو يشكل في حد ذاته سببا في إضاعة الوقت ومن ثم عدم تثمينه؟