Al Jazirah NewsPaper Friday  29/08/2008 G Issue 13119
الجمعة 28 شعبان 1429   العدد  13119
رمضان زائر كريم
د. محمد بن سعد الشويعر

في كل عام يتطلع المسلمون لإطلالة هلال رمضان، لما يحصل فيه من فوائد ومصالح علاوة على كونه استجابة لأمر الله بعبادة فرضها سبحانه عليهم، وهو عبادة بدنية، فإن من المصالح بعد طلب الأجر من الله، مثلما حدد رسوله الكريم في الأجور والفضائل في هذا الشهر الكريم فإن الزائر والضيف يكرمان فكيف إذا كان الزائر يعطي ولا يأخذ؟!.

كما أن فيه مصالح أخرى: فالمريض ينتظم أكله ويخف تحمل الجسم، من الزيادة في الطعام: سواء كان مصاباً بالبدانة، أو الداء السكري أو غيرهما من الأمراض الكثيرة المتعلقة بالدم والقلب والضغط، فهي مصلحة صحية، وحمية للبدن عما يحرك الأمراض، ويزيد أثرها بدون المكافحة، والحمية من الحماية، مأخوذة من اسمها، كما جاء في الطب النبوي: (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء).

وتعود المصالح على الغني بحب البذل في هذا الشهر الذي ترق فيه القلوب وتسخو الأيدي، رغبة فيما عند الله، وتطهيراً للمال لأنه (ما نقص مال من صدقة) وأفضل الأعمال ما كان في المواسم الخيرة، وبالنسبة للفقراء فإنهم يتطلعون إلى هذا الشهر الذي هو موسم من مواسم الخير، فما يأتيهم يسد به رتقاً في أوضاعهم ومعاشهم، في الشهور الأخرى.

أما للناس فيما بينهم فالتهاني والصفح عن الزلات، والتسامح ليزول ما أراد عدو الله إبليس وأعوانه زرعه بين الناس والأقارب، من حزازات وعداوات، لأن الشياطين تصفد فيه، ليضعف وازع الشر ويقوى وازع الخير والإيمان، بما يهيئه الله في كل يوم من نداء: (يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر) لأنه شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار) فهو موسم الخير والمودة والتعافي والطاعات، فيه تفتح أبواب الجنان، وتوصد أبواب النيران، اختصه الله بفضائل وحبب فيه العبادة وفعل الطاعات: من صلاة وتنفل وقيام الليل وقراءة القرآن والصدقات والإحسان، مع عفة اللسان والتجافي عن قول الزور والكذب والغيبة والنميمة.. ويخف وازع الحسد والشحناء بين الناس.

يهذب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم القلوب والنفوس، في مثل هذا القول الكريم: (إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق) وقد خاطب سبحانه في تشريع الصيام عباده بأحسن صفة وهي الإيمان بقوله الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (183) سورة البقرة، تكريماً لهم، يقول ابن مسعود إذا سمعت في كتاب الله: (يا أيها الذين آمنوا) فأرعها سمعك فهو إما خير تؤمر به أو شر تنهى عنه.

قال ابن عطية الأندلسي في تفسيره: اختلف المفسرون والمتأولون، في موضع التشبيه، فقال الشعبي وغيره: المعنى كتب عليكم رمضان، كما كتب على النصارى، قال: (فإنه كتب عليهم رمضان فبدلوه، لانهم احتاطوا له، بزيادة يوم في أوله، ويوم في آخره، قرنا بعد قرن حتى بلغوه خمسين يوماً، فصعب عليهم في الحر، فنقلوه إلى الفصل الشمسي وجاء في الحاشية للألوسي في روح المعاني: أنهم نقلوه إلى زمن نزول الشمس برج الحمل.

ثم قال: قال النقاش: وفي ذلك حديث دغفل بن حنظلة والحسن البصري والسديّ وقيل بل مرض ملك من ملوكهم فنذر إن برئ أن يزيد فيه عشرة أيام ثم آخر سبعة أيام ثم آخر ثلاثة، ورأوا أن الزيادة فيه حسنة بإزاء الخطأ في نقله.

أما السدي والرّبيع فقالا: التشبيه هو أن من الإفطار إلى مثله لا يأكل ولا يشرب ولا يطأ فإذا حان الإفطار فلا يفعل هذه الأشياء من نام وكذلك كان في النصارى أولاً.

وكان في أول الإسلام، ثم نسخه الله بسبب عمر وقيس بن صرمه، بما يأتي من الآيات في مثل هذا... أما حديث دغفل الذي جاء عند البخاري والطبراني عن دغفل بن حنظلة عن النبي صلى الله عليه وسلم (قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان فمرض ملكهم فقالوا: لئن شفاه الله لنزيدن عشراً ثم كان آخر فأكل لحماً فأوجع قواه، فقالوا: لئن شفاه الله ليزيدن سبعاً، ثم كان عليهم ملك آخر، فقال: ما ندع من هذه الثلاثة الأيام شيئاً، نتمها ونجعل صومنا في الربيع ففعل فصارت خمسين يوماً) (المحرر الوجيز لابن عطية الأندلسي2 :73 -74).

وهذا من الغلو في الدين الذي نهى الله عنه وحذر منه رسوله صلى الله عليه وسلم، وحصل بسببه الانحراف ولذا فإننا معاشر المسلمين مأمورون بالوسطية والوقوف عند النص الشرعي: لا بزيادة ولا بنقص كما قال صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي سأل عن الدين فقال له عن رمضان: وتصوم رمضان إلا أن تتطوع، لما أحس من السائل رغبة في الزيادة (أفلح إن صدق).

وشرعت النوافل: في الصوم والصلاة والزكاة والحج وغيرها من التشريعات الإسلامية، لتكون اختيارية، يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها، وهي لمن عنده رغبة وقدرة يكمل الله بها نقص تلك العبادات يوم الحساب.وخفف الله عن أصحاب الأعذار كالمريض والمسافر والعاجز والحائض والنفساء، فعدة في القضاء من أيام أخر،{يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (185) سورة البقرة. (المرجع السابق ص 81).

قال أبو حنيفة وأصحابه: من شهد الشهر بشروط التكليف، غير مجنون ولا مغمى عليه فليصمه ومن دخل عليه رمضان وهو مجنون وتمادى به طول الشهر فلا قضاء عليه لأنه لم يشهد الشهر، بصفة يجب بها الصيام، ومن جن أول الشهر أو في آخره فإنه يقضي أيام جنونه، وفي العسر واليسر: قال مجاهد والضحاك بن مزاحم: اليسر الفطر، والعسر الصوم في السفر، والوجه: عموم اللفظ في جميع أمور الدين، وقد فسر ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (دين الله يسر) (المرجع السابق ص 84).

والله سبحانه لا يؤاخذ عباده: إذا نسوا أو أخطأوا، ولا يكلف نفساً إلا وسعها، كما هو نص آخر آية في سورة البقرة: فقد جاء حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا نسي الصائم فأكل وشرب، فليتم صومه، فإنما الله أطعمه وسقاه) قال محقق أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري للخطابي الدكتور محمد بن سعد آل سعد: قوله: أطعمه وسقاه، معناه أن النسيان ضرورة، والأفعال الضرورية غير مضافة في الحكم إلى فاعلها، وهو غير مؤاخذ بها، وكذلك هذا في الجماع، إذا كان منه في الصوم ناسياً والكلام ناسياً لا يبطل صلاته، وقد تكلم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته ناسياً، فبنى عليها، والكلام في هذا مطرد، إلا أن يكثر النسيان ويتتابع الكلام في الصلاة، فإنهم لا يعذرون احتياطاً للعبادة لئلا يتبتر الكلام نظم الصلاة، وذلك أن العادة إنما جرت في النسيان أن يكون نادراً، في وقت دون وقت، فإذا تتابع خرج عن حد العرف، فرد إلى حكم العمد (ص2 ، 960) فرمضان شهر كريم، وموسم من مواسم العبادات، فيجب على كل مسلم: صيانة صومه عن الرفث والفسوق، ولسانه عن الكذب والغيبة والنميمة، وجوارحه عن البغي والتعدي على حقوق الآخرين ودمائهم، وأن يعتبر كل من عليه للناس من التزامات، أو اعتداءات أو عداوات أن يتحلل منها وأن يرد الحق لصاحبه ويستبيح من ناله بلسانه، بأي طريقة كانت وشاهد ذلك قضية المرأتين اللتين صامتا عن الطعام وأفطرتا على أعراض الناس، وأكل لحومهم، فتوعدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقاب الشديد وقال: (صامتا عما حلل الله وأفطرتا على ما حرم الله) أما المسلمون العارفون لحق ومكانة هذا الشهر فإنهم يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان حتى يفوزوا فيه فيجب على كل صائم في هذا الشهر الكريم، أن يضع بين يديه، وعينيه وجميع حواسه، مكانة هذا الشهر فلا يكون صومه وفطره سواء، فهو شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار وجميع أعمال الصائم بنيته المخلصة تتحول إلى عبادات يؤجر عليها: نوماً وسيراً وذكراً لله وقراءة القرآن وغير ذلك.. فلا تكن يا أخي الصائم ممن قال فيهم رسول الله: (رغم أنف من أدرك شهر رمضان ولم يغفر له) قل آمين فقال جبريل آمين، فهذه خسارة عظيمة.

نماذج من الوفاء:

جاء عند الأبشهي في كتابه المستطرف أن الخليفة المأمون لما ولى عبدالله بن طاهر بن الحسين، مصر والشام، وأطلق حكمه دخل على المأمون بعض اخوانه يوماً فقال: يا أمير المؤمنين إن عبدالله بن طاهر يميل إلى أبي طالب وهواه مع العلويين، وكذلك كان أبوه قبله، فحصل عند المأمون شيء من كلام أخيه من جهة عبدالله بن طاهر، فتشوش فكره، وضاق صدره واستحضر شخصاً وجعله في زي الزهاد والعباد، والنساك الغزاة، ودسه إلى عبدالله بن طاهر وقال له امض إلى مصر وخالط أهلها، وداخل كبراءها، واستملهم إلى القاسم بن محمد العلوي، واكشف لي باطنه، وابحث عن دفين نيته، وائتني بما تسمع، ففعل ذلك الرجل ما أمره به المأمون، وتوجه إلى مصر ودعا جماعة من أهلها ثم كتب ورقة لطيفة ودفعها إلى عبدالله بن طاهر، وقت ركوبه.

فلما نزل من الركوب، وجلس في مجلسه خرج الحاجب إليه، وأدخله على عبدالله بن طاهر، وهو جالس وحده فقال له: لقد فهمت ما قصدته فهات ما عندك، ولي الأمان، قال: نعم. فأظهر له ما أراده ودعاه إلى القاسم بن محمد فقال له عبدالله أوتنصفني فيما أقوله لك؟ قال: نعم قال فهل يجب شكر الناس من بعضهم لبعض عند الإحسان والمنة؟ قال: نعم قال: فيجب علي وأنا في هذه الحالة التي تراها في الحكم والنعمة والولاية.

وهي خاتم في المشرق وخاتم في المغرب وامري فيما بينهما مطاع، وقولي مقبول.. ثم إني التفت يميناً وشمالاً فأرى نعمة هذا الرجل غامرة وإحسانه فائضاً علي.

أفتدعوني إلى الكفر بهذه النعمة، وتقول: اغدر وجانب الوفاء، والله لو دعوتني إلى الجنة عياناً لما غدرت، ولما نكثت بيعته، وتركت الوفاء له. فسكت الرجل، فقال له: عبدالله بن طاهر: والله ما أخاف إلا على نفسك، فارحل من هذا البلد فلما يئس الرجل منه، وكشف باطنه، وسمع كلامه، رجع إلى المأمون فأخبره بصورة الحال، فسره ذلك وزاد في إحسانه إليه، وضاعف إنعامه عليه (المستطرف للأبشهي1- 182).



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5068 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد