Al Jazirah NewsPaper Friday  29/08/2008 G Issue 13119
الجمعة 28 شعبان 1429   العدد  13119

نوازع
أحمد بن المدبر
د. محمد بن عبد الرحمن البشر

 

ليس الحديث عن نسبه ما يهمنا في هذه العجالة، وإنما يهمنا نقل شيء من أخباره ذات الدلالات الإدارية والسلوكية.

كان لا يقبل من الشعر إلا أجوده، وكان ينتقد الشعراء في شعرهم، وإذا مدحه أحدهم ولم يرض عن شعره أمر غلامَه أن يمضي بالشاعر إلى المسجد الجامع ويجبره على الصلاة مائة ركعة ثم يطلقه، ولهذا فقد خافه الشعراء وتحاموه إلا من حذق في الشعر وأجاد، فجاءه الشاعر عبدالله أبو الحسين المصري المعروف بالجمل، فاستأذنه في قول قصيدة فقال له: هل عرفت الشرط، أي أنك إذا لم تجد سوف يذهب بك إلى المسجد الجامع لتصلي مائة ركعة فقبل ذلك الشرط. فقال فيه مادحا:

أرَدْنا في أبي حَسَن مَدِيحاً

كما بالمدح تُنتَجعُ الوُلاةُ

وقلنا أكرمَ التَّقلين طُرَّاً

ومَنْ كفَّاهُ دجلةُ والفُراتُ

فقالوا: يقبلَ المِدْحاتِ لكنْ

جوائزهُ عليهنَّ الصلاةُ

فقلتُ لهمْ، وما تُغنِي صلاتي

عيالي إنما الشأنُ الزكاةُ

فتامُرُ لي بكسر الصَّادِ منها

فتصبحُ لي الصَّلاةُ هي الصِّلاتُ

فضحك أحمد بن المدبر.

كما حدثت له قصة مع إبراهيم بن العباس الذي كان مسؤولا عن ديوان الضِّياع وكان بليغا، فذات مرة قال أحمد بن المدبر للمتوكل: لقد قلدت إبراهيم بن العباس ديوان الضِياع، وهو لا يحسن قليلا ولا كثيرا، وطعن عليه طعنا قبيحا، فقال المتوكل: في غد أجمع بينكما، وأرسل إلى إبراهيم بن العباس بالحضور بين يدي المتوكل، فأيقن إبراهيم بالمكروه، لأنه يعلم أن أحمد بن المدبر أفضل منه في المعرفة بالضياع وحفظ الأموال، غير أن أحمد بن المدبر يقصر عن إبراهيم بن العباس في البلاغة. وحضرا من الغد عند المتوكل، فنظرا إلى أحمد بن المدبر وقال: قد حضر إبراهيم وحضرت، ومن أجلكم قعدت، فهات: اذكر ما كنت تقوله بالأمس، فقال أحمد: إنه لا يعرف أسماء عماله على النواحي، ولا يعلم ما في كيولهم، ولا يعرف أسماء النواحي التي تقلَّدها، كما أنه يحابي أصحابه، فقد أقطع فلان كذا وكذا، فالتفت المتوكل إلى إبراهيم وقال: قد سمعت فهات ما عندك، فقال: يا أمير المؤمنين جوابي في بيتي شعر قلتهما، فإن أذن أمير المؤمنين في إنشادها أنشدتها، فأذن له فقال:

رَدَّ قولي وصدَّق الأقوالا

وأطاع الوشاة والعُذَّالا

أتراه يكون شَهرَ صدودٍ

وعلى وجهه رأيت الهِلال

فقال المتوكل: أحسنت، آتوني بمن يصنع في هذا لحنا، وهاتوا ما نأكل، وجيئوا بالنساء، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس، فخلع عليه، وانصرف إلى منزله.

وعندما ذهب إبراهيم إلى منزله مكث يوما مغموما، فقال أحد غلمانه: هذا يوم سرور بما جاد الله بك لك من الانتصار على خصمك، فقال يا بني: الحق أولى بمثلي وأشبه، فإنني لم أنتصر على أحد بحجة، ولم يكذب في شيء مما قاله، فأنا لا أجاريه في المعرفة بالخراج والضِياع، كما أنه لا يجاريني في البلاغة، فأنا مغتم وأبكي لأنني فلجته بالبلاغة وفلجني بالحق. إن الأقدر على البلاغة ربما يكون أكثر قدرة على نيل المراد حتى وإن كان مجافيا للحقيقة، وربما يكون أحدنا ألحن من الآخر، ويبدو أن القرب من القلب والاستئناس بالمجالسة جعلت المتوكل يميل إلى إبراهيم بن العباس على حساب صاحب الحق أحمد بن المدبر.

وقال عن نفسه، عندما كنت ذات يوم وأنا غلام أعمل لدى جعفر، فدخلت الجارية عريب الكبيرة، فنظرت إلي، وأطالت النظر، فقالت لجعفر، من أين لك هذا الطير المراري، فاستحييت وخجلت ونهضت، وخرجت عريب، فدعاني جعفر فقال: لعل ما كلمتك به هذه العيَّارة قد غمَّك، فأمر لي بعشرة آلاف درهم، وما كنت رأيتها مجتمعة قط في ملكي، فخرجت وما أعقل من شدة المزح فاستبدلت دابتي، وشريت بغلا يركبه غلامي خلفي، وكان ذلك أول مال أقتنيه، ثم فتح الله علينا نعماءه، ولم يكن لذلك سبب غير كلمة تلك العيَّارة المسماة عريب.وربما يجد أحدنا عيَّارة أخرى في زماننا هذا يقال لها عريب أو أي اسم كان، لعله يكون فاتحة خير لأحدنا أو بعضنا.ويبدو أن أهل هذا الزمان قد ظنوا أن شاشات الأسهم، هي عريبا العيَّارة في ذلك الزمان، فبقوا دون جهد أو عمل متسمِّرين أمام شاشات عريب العيَّارة، لعل الدراهم تتساقط في حساباتهم، كما تساقطت في يد أحمد بن المدبر، فانتظروا رحمكم الله حتى نرى التحول المثير لشاشات الأسهم إلى عريب العيَّارة، وإلى ذلك الحين استمروا في تضييع مالكم ووقتكم ليدفع مجتمعكم ضريبة ذلك. وانتظروا فإننا منتظرون.

لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6227 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد