Al Jazirah NewsPaper Wednesday  27/08/2008 G Issue 13117
الاربعاء 26 شعبان 1429   العدد  13117
الحبر الأخضر
تشوهات المهنة
أ. د. عثمان بن صالح العامر

لكل وظيفة صغيرة كانت أو كبيرة حكومية أو في القطاع الخاص متطلباتها المهارية والإدارية والفكرية والنفسية بل وحتى الاجتماعية ولكل منصب - خاصة إذا علت الدرجة وارتفعت الرتبة -تبعاته ومسئولياته في مقابل ما يتحقق لشاغله من عوائد مادية ...

ومجتمعية وإشباع للرغبات الذاتية المغروسة في تكوين كل منا، وقد تنعكس المناصب على شخصية شاغلها وتؤثر على طبائعه وسلوكياته وأخلاقياته حين تعامله مع من حوله بوجه عام سواء بالسلب أو الإيجاب، وربما طبعته بطابعها وهو لا يشعر، ومن باب التدليل على ما ورد أعلاه، أذكر أنني قبل سنوات ليست بالقليلة كنت في ضيافة أخ عزيز وصديق وفي وكان يتجول بنا على مزارع واستراحات مدينة الخرج فوقف عند بوابة استراحة كبيرة ولها سوار مرتفع جداً، وطرح علي سؤال عارض وهام، قال لي: لو قيل لك لمن هذه الاستراحة، فمن تتوقع؟ سكتٌ ولم أجب.. فقال لي: إنها لمسئول معروف في السجون!! وهذا هو الشاهد، لقد أثرت البيئة الوظيفة على هذا المسئول علم ذلك أو لم يعلم ومثل ذلك كثير في مجتمعنا المحلي وعالمنا العربي والإسلامي وربما تكون حالتهم أظهر وأوضح، ولقد تحدث أهل الاختصاص عن هذا الأثر خاصة عندما يكون سلبياً بما اصطلح عليه بتشوهات المهنة والمثل السائر عندهم ذلك المعلم الذي أمضى سنوات طويلة وهو يؤدب الصغار فهو أن لم يوطن نفسه ويسوسها جيداً فإنه مع مرور الزمن وطول المراس سوف ينظر لكل من يخالط من بني البشر من موقع الأستاذية يتحدث كثيراً ويعيد الكلام مرات عديدة ويروي القصة بتفاصيلها المملة كل مساء ولنفس القوم، يتحدث مع الجميع بنفس اللغة التي يوجه بها طلابه الصغار ويمارس حين اللقاءات وفي المناسبات نفس السلوكيات التي تعود عليها كل صباح داخل أروقة مدرسته، وأعتقد أن أكثر ما تكون معالم هذه الصورة (تشوهات المهنة) واضحة وجلية لدى القادة العسكريين ذوي الرتب العالية وأصحاب المعالي والسعادة ومن هم على شاكلتهم الذين ألفوا الأمر والنهي والتوجيه المذيل بعاجل وأُفاد بما تم.. خاصة بعد التقاعد أو الاستغناء أو حين العجز والمرض لا سمح الله، ولكل أن تتصور حالة صاحب منصب وجاه كلمته في العمل لا تقع على الأرض حالته وواقعه حين يكون داخل كيانه الأسري على نفس المنوال وبنفس السلوك والأخلاقيات سواء في علاقته مع زوجته أو حين يخاطب أولاده الذكور والإناث!! جزماً ستتحول حياته إلى فعل وردة فعل وقد تتبدل مشاعر المودة والألف بعلاقة الخوف والرجاء وتتحول لغة الحوار المبني على التفاهم والتجانس إلى لغة الأوامر والقرارات واجب التنفيذ.. وسم طال عمرك، حاضر، ما يكون خاطرك إلا طيب، أبشر.. لقد وضع لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال سيرته الفعلية وسنته القولية قاعدة حياتية ذهبية فحواها بأن من الفاطنة والحكمة الفصل التام بين الحياة الوظيفية أياً كانت والحياة الأسرية داخل بيوتنا ومع أولادنا وزوجاتنا وذوي أرحامنا، كما أن من السياسة الحياتية المتزنة والناجحة ترتيب الأولويات المعيشية وإنزال الناس منازلهم في التعامل إذ أن هناك فرق كبير بين ممازحة الولد ومعاملة المراجع أو الموظف أو... والمناصب لها واجباته التي تنتهي عند باب المكتب لتبدأ حياة اجتماعية جديدة قد تختلف جذرياً عن الحياة الوظيفية ذات المسئوليات متعددة المهام، ولكن وللأسف الشديد يمكن القول هنا بأن من أخطاءنا الاجتماعية القاتلة الخلط وعدم التفريق بين الوظيفي والمجتمعي فالمجتمع يريد المسئول داخل ميدان عمله كما هو في الخارج، وإذا لم يكن كذلك - خاصة عندما يوكل إليه القيام بمهمة وظيفية توجب عليه الحزم تحقيقا للعدل والإنصاف - تداول الناس عبارة دارجة.. (فلان ما هو خبرك تغير.. غيرته الوظيفة، بدأ يتكبر علينا) وإذا تقدم صاحب أو قريب بطلب ولم يلبى هذا المسئول الذي يمون عليه طلبه وتعثر موضوعه لسبب أو أخر كرر في المجالس (فلان لا يهمك.. بيوم من الأيام تقدمت له بطلب وما وجبني، قلبه أسود ولو أظهر لك المحبة.. الله وأعلم أنه ما يرغبنا حنا يا عيال...) علاوة على أن العكس قد يكون فهذا المسئول أو ذاك ربما يكون من أولئك الذين يخلطون أوراق المسئوليات الوظيفية مع العلاقات الشخصية، وهذه هي وللأسف الشديد السمة الغالبة عندنا خلاف الغرب الذي عرف عنه اليوم فصله التام بين الشخصي والوظيفي، ولذا لا تلازم الموظف تشوهات المهنة كما هو الحال في عالمنا العربي، إذ أنه يحقق في داخل ذاته انسجاماً خاصاً ويربيها على الانصياع للأوامر التي تفرضها المسئولية الاجتماعية ومتى ترك الكرسي عاد وبكل ثقة لحياته الخاصة ومشاريعه الذاتية والتطوعية خدمة للمجتمع ووالله ثم والله أننا نحن الأحق بذلك فهذا ديدن رسولنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ومن بعده صحابته الأجلاء رضي الله عنهم أجمعين فهل ندرك ذلك ونربي أنفسنا عليه.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 6371 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد