قال الجاحظ في رسالة الحنين إلى الأوطان: (كانت العرب إذا غزت أو سافرت حملت معها من تربة بلدها رملا وعفرا تستنشقه). ومن طقوس الهزيمة عند الصينيين أن الاستسلام يعلن بعد أن يطأ القائد المنتصر بقدمه على تراب المهزومين في صحن، ولذلك تمنع الدول تصدير ترابها ...
وتعده رمزا مقدسا لسيادة الوطن.. وربما لهذا السبب حسد كثير من النقاد والأدباء شاعر فلسطين محمود درويش على لقبه مجنون التراب حينما أطلقه عليه الناقد شاكر النابلسي في كتابه (مجنون التراب: دراسة في شعر وفكر محمود درويش، 1987).
وداعا مجنون التراب.. محمود درويش شاعر القضية والمهاجرين والبسطاء والمختطفين واللائذين بآخر رجاء، لقد قبلوك وعانقوك قبلة وداع هي الأطول في تاريخ البشرية؛ لأنها كانت بين الإنسان والأرض... في صورة تثبت أن تلك القشعريرة التي اعترفت بها ذات منفى لاتزال تسري في قلبك عندما كنت تكتب بواكير قصائدك لم تفارق قلوبنا أيضا ولم تفارق ترابك لحظة نهايات مقاومة شاعر باذخ... كان وداعا من القيم والنضال والمقاومة والمناديل البيضاء المطرزة بغصون زيتون يافا وصفصاف حيفا... وداع قلب لم يعد يحتمل كل هذا التمزق، وكل هذه الأشلاء الفلسطينية المتناثرة، المدفوقة في بقاع الأرض، ومزقتها القيادات الفلسطينية نفسها بخلافاتها، وأطماعها، وتنازعها على ملكية هذه الدجاجة التي تبيض ذهبا من جهة، ومزقتها كوارث الصهيونية من جهة ثانية، وأحلام السياسي العربي من جهة ثالثة، وانتقائية السياسي الغربي من جهة رابعة، بينما كان تراب فلسطين هو السفر الذي يكتب عليه مجنونها بدموعه مسودات قصائده، وكانت كلماته تولد من دهاليز المقاومة وحارات فلسطين مضرجة بدم الأطفال ورائحة البرتقال، كانت كل قصيدة شعرية قالها مجنون التراب، تأخذ شكل الحجر الفلسطيني بيد الأطفال ولون الكوفية على رأس الشيوخ وشموخ الصفصافة في البساتين، وأسرار البحر في الخريطة، ونضال القدس في التاريخ وقداسة المسجد الأقصى في الكتب السماوية..
إيه أيتها المنافي إن القلب العائد محمولا على جناح سنونو من الولايات المتحدة عاش من أجل قضيته لحظات حرجة هي أعسر من لحظات جراحة قلبه المفتوح، وربما حقق وداع جنازته ما عجز عن تحقيقه لقاء الفرح والبذخ والترف والمؤتمرات في هذه المتوالية التي تصيب المخيخ في صميمه فيفقد كل مقومات التوازن، فحق للضفة والقطاع أن تلتقي ذراعاهما حول عنق من كان أمينا على جرحهما العميق، وأن تتلاصق شفتاهما على جبين من أرخ للإلياذة الفلسطينية بكل فرسانها وأحداثها وشخوصها؛ لأنها لا يمكن أن تنسى حينما أمسك إسحق شامير قصيدة محمود درويش (عابرون في كلام عابر) أمام الكنيست واستدعى كل احتياطيه الصهيوني من التحريض ضد الشاعر الذي صاح من فرط القهر والحرية معاً: اخرجوا من لحمنا واخرجوا من ملحنا ومن أرضنا.
صدقا الحياة لا تغري هذا الإنسان في هذا الجزء من الكوكب بعد كل الاختزالات والتدجين، ولذلك يبتهج باحتفالات العزاء حدا الرقص والموسيقى حول جثة شاعر مسجى بسؤال خالد في سفر الشقاء البشري العشوائي وتابوته أشبه بمستوطنة عقاب كبرى بالمفهوم الاسخريوطي، ليعطي دلالات مقدسة وإجابات مزخرفة تثبت أنهم لا يستطيعون نزع الأوطان من صدور أهلها تصديقا لمثل إنجليزي يقول (من السهل أن أخرج من القرية، لكن من الصعب جداً أن تخرج القرية مني) ومجنون التراب لم يخف من الموت إلا لأنه كما قال ذات قصيدة يخجل من دمع أمه، ومن يدري ما لمقصود في ذاكرة شاعر يلامس الحروف فيحولها لمعلقات من ذهب كما يفعل ميداس الذي يلامس التراب فيحوله إلى ذهب، شاعر بقلب لم يحتمل جهاز التنفس الصناعي أكثر من يومين، وهو الذي اتسع قلبه لهموم الملايين أكثر من سبعة وستين عاما، ربما لأن رئتيه تنفستا هواء الحرية وشفتيه تحركتا بنشيد الراب ولم يقاوم التنفس المزيف ولا الحياة المؤجلة، والمؤلم أنه كان يخشى الشلل الجزئي. لهذا كان يتمنى في كلماته الأخيرة أن يفتح قلبه وتعبث به المشارط والخيوط في بلد تسمح قوانينه بإنهاء حياة المريض إذا رغب في ذلك. وانتهى مجنون التراب وبلاده إنسانها جريح وترابها ينزف. حضرت أمسيته التي أقيمت في الشارقة وتكبدت عناء الطريق في تلك الغربة، ربما لأنني كنت بحاجة إلى رؤية إنسان يبكي وطنه، يقدس ترابه، يتنفس إنسانه.. كنت أحس ببكائه من تلك الجمرة التي استقرت في روحه والغربة التي تمكنت من جسده والجماهير السعيدة تصفق في وطنها على جراحه وبين أهاليها كان باختصار صراعات تراجيديا بين إنسان يحتضر والموت الذي يهدده من أركان الكون، ولم يكن يدرك مجنون التراب أن بكاءه في أمسيته الأخيرة في رام الله هي دموع الوداع الأخير وأن تدشينه ميدان محمود درويش في منتصفها هو ميدان عزائه وأن طابع البريد التذكاري الذي حمل صورته قبل أسبوع في تلك الحفلة الوداعية يمنحه الخلود ويمنح قصيدته الاستثنائية منزلتها العالية منذ سجل أنا عربي إلى نشيد الحصار، مروراً بمديح الظل العالي؛ لأنها نجحت في جمع شتات أخفقت فيه السياسة والاشتباك المؤدلج.. ربما كان قدر شعراء العرب مؤلما أكثر من غيرهم بسبب حالة الفقد التي يعيش معجمهم تفاصيلها وهو غير معافى ابتداء من المهد وانتهاء باللحد بكلمات تحتفظ فيه بكامل دلالاتها السوداء، فالوطن مسروق والكرامة منزوعة ومقاومة كل شيء في حياتهم على مر التاريخ ضرورة، حتى حسدهم الشاعر والناقد البريطاني ستفن سبندر على ما لديهم من مناجم أخرى غير النفط والغاز والبوتاس، وقال إن لدى المثقف العربي من فائض المادة الخام للكتابة ما لا يملكه مثقف آخر في هذا العالم.
صدقت يا ستفن، المثقفون العرب يحترقون بين الاحتلال الخارجي الذي استباح ترابهم حتى أصبحوا يفتخرون بجنونه والاستحلال الداخلي الذي سلبهم سبل العيش الكريم حتى أصبحوا منفيين في ديارهم، فقدرهم في هذه الأمة التي تأكل أبناءها مؤلم فكم من عالم جلد ظهره بالسياط على ظهور الحمير والبغال نتيجة الإقصاء وعدم الإيمان بالتعددية الفكرية، وتنوع الآراء الفقهية، وكم من فيلسوف وكيميائي تدرس نظرياته في جامعات الغرب اتهموه بالزندقة والضلال المبين، وكم من خطاط كابن مقلة قطعت أنامله التي تخضبت بحناء الخط الكوفي والديواني، وكم من مثقف أحرقت كتبه كأبي حيان التوحيدي احتجاجاً على سوء المعيشة، وكم من أديب جردته السلطات والأنظمة من هويته الوطنية لأسباب غير منطقية، ويكفي أن طباعة كتبهم ودواوينهم تقاسم عيالهم لقمة العيش بينما كتاب واحد لمثقف غربي يضمن مستقبله ومستقبل أسرته، وقد حكت كتب الفلاكة والمفلوكون بعض معاناتهم في تراثنا، يا ستيفن مغنية من جواري بغداد في العصر العباسي تمنح خراج خراسان وأبو سعيد السيرافي قاضي القضاة في بغداد ينسخ كل يوم عشر ورقات ويأخذ ثمنها قوتا ليومه، وليتك قرأت مقدمة ابن قتيبة في مقدمة أدب الكاتب لوقفت على إحباط لا مثيل له.. يا ستفين إن حجم الكارثة يصوره ذلك الأديب الكبير الذي مات قهرا بعد صفعة من متخلف لا يعرف أنه ثروة وطنية في الباص، وفائض المادة الخام يؤكده الشيخ محمد رفعت شيخ قراء هذا العصر وكل عصر حينما مات جوعا..؟ والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com