كتبه - بدر بن نجر الردعي
وقوفا عند كلمة (أنه لا تاريخ بلا وثائق كما أن الوثائق وحدها لا تكتب تاريخا).
وعبارة (أن الحقيقة التامة في التاريخ مطلب مستحيل) كمن يطلب إعادة عجلة الزمن إلى الوراء، والمطلب الممكن هو البحث عن الحقيقة التاريخية والتي تعتبر أقرب الصور للحدث الماضي لا الحدث نفسه.
فالمؤرخ في تعامله مع حدث تاريخي معين يعمل كما يعمل الطبيب مع المريض، فالطبيب في فحصه للمريض يسأل عن الشكوى ثم يطرح بناء عليها احتمالات لنوع المرض، ومن خلال أسئلة معينة وبمساعدة الوسائل الحديثة في الطب كالأشعة والتحاليل، يستطيع أن يقترب أكثر فأكثر من التشخيص السليم الذي يترتب عليه علاج سليم.
فالمؤرخ يتعامل مع الحدث التاريخي من خلال هذا النهج فيطرح احتمالات تصوّر للحدث ثم ينشد المصادر مدوّنة أو شفهية ويستعين بالوسائل الحديثة في التوثيق، حتى يقترب من الصورة الأمثل والأقرب للحدث التاريخي.
إن غياب الحقيقة التاريخية أو تخفيها في صور شتى أو اكتشاف أجزاء منها هو الذي يدفع الباحث إلى طرق أنواع المصادر كافة التي يمكن أن تقوده إلى تلك الجوانب الغائبة.
فالبحث عن الحقيقة التاريخية أمر لا يتوقف ولا يجب أن يتوقف.
فما كان غائبا اليوم يمكن أن يكون ماثلا غدا، مع تقدّم وسائل البحث التاريخي أو اكتشاف مصادر تاريخية جديدة., مخطوطة كانت أو شفهية.
عقبات تواجه الباحث في التاريخ المحلي:
من أهم العقبات التي تواجه الباحث التاريخي في تاريخنا المحلي، آفة المبالغة، بل إن أصدق الأدلة التاريخية الذي يعبر عنه بالتاريخ اللحظي أو ما يسمى تاريخ الصحفيين (الشهادة الفورية), لم تسلم من هذه الآفة، فهذا المؤرخ المحلي مقبل الذكير يقول في تاريخه المخطوط، معلقا على أحد التقارير العسكرية التي كتبها قائد أحد الجيوش يخبر فيها عن تحركات جيشه، والذي يصنّف في مصادر التاريخ بالمصدر الفوري، يقول الذكير: (أما ما ذكره من كثرة الغنيمة فلا تخلوا من المبالغة، وهذه عادة اعتدنا سماعها.... وأكثر ما تكون المبالغة حين يكون الفشل) انتهى.(1).
يقول الرحّالة الانجليزي داوتي معلقاً على مبالغة العرب في أعداد الغنائم في الحروب عندما نقل إليه أن الغنيمة في أحد المعارك بلغت 13 ألف جمل قال: (ربما يكون العدد 130 لآن العرب يبالغون دوماً في الأعداد،وتلك شهامة لا تكلفهم شيئاً).انتهى.(2).
والآفة الأخرى هي امتزاج الخيال بالرواية التاريخية، وخصوصا في مجتمعنا المحلي، فهو أمر معلوم بطريقة يصعب علينا أحياناً فكها، وهذا لا ينفي وجود التاريخ الواقعي فيها، الأصل لا يُنفَى, إذا نُِفي الخيال من الرواية.
يؤكد علماء التاريخ على حقيقة طردية بين الخيال في الرواية وبين انتشار العلم في المجتمعات، فكلما زادت الأميّة زاد معها احتمالية مزج الخيال بالواقع في الروايات التاريخية.
الذاتية في الرواية التاريخية وهذه من المسائل التي يعبر عنها علماء النفس ويفسرونها على أنها غريزة فطرية تدعى حب البقاء، فهذه الغريزة تمحو آليا كل مالا يتفق مع غايتها من صفحات الذاكرة، فتجد الراوي ومن غير قصد ينحرف مع هذه الغريزة لا شعورياً، وهذا ما يكون ظاهرا خصوصا في الرواية الشفهية أو المذكرات الشخصية.
يجب على الباحث أن يبتعد عن إصدار الأحكام على الأحداث التاريخية، بل يجب عليه أن يتعامل معها وفق مبدأ الأمانة التاريخية، فإذا سبر الباحث التاريخ بعدسة الحاضر فسوف يمقته، أما إذا سبره بعدسة الواعي التاريخي فسوف يعذره.
إن البحث في التاريخ المحلي وإن كان ذا طابع شّيق وجذّاب، إلا أنه في نفس الوقت يحتاج إلى مزيد عناية، ومراجعة قراءه وتمحيص لتتشكّل في النهاية صورة يمكن أن تكون هي الأمثل في قراءتنا للماضي.
الهامش:
(1)- مخطوط مطالع السعود في تاريخ نجد، مقبل الذكير، ورقة 135، في أحداث سنة 1320هـ.
(2)- ترحال في صحراء الجزيرة العربية، داوتي، الجزء2 المجلد 2 صفحة 145.