كانت شمس الأحد 17-7-1429هـ على وشك الرحيل وهي تضع خطاها على نهاية درب الأفق الأصيل، بينما كان والدي رحمه الله يضمنا إلى صدره واحداً بعد الآخر ثم يقبلنا ويودعنا وهو يصارع سكرات الموت.. موقف أبوي محزن هلت فيه دموع الفراق وامتزجت بألم المصاب.. رحل أبي بلغة الأوفياء وودعنا بصمود وشموخ الكبرياء بعد أن عاش حياته بكفاح الأنقياء وسماحة الأتقياء.. كانت الشهادة والاستغفار والاستعاذة بالله من الشيطان على لسانه في ساعة الاحتضار بينما نحن قد وقفنا حوله والدموع قد أغرقتنا.. أخذ يومئ برأسه يميناً وشمالاً وهو يقول (لا تتأثروا.. اصبروا) هذا حكم الله ولا اعتراض على قضائه وقدره.. طلب منا الانتباه على عينيه وأطراف جسمه حتى يموت موتة سوية وحين وجهناه للقبلة قال كلمته المؤثرة (سامحوني يا أولادي فقد أتعبتكم معي وأحرجتكم لكني راض عنكم كل الرضى) أعطانا الإشارة بأن نسقيه رشفة ماء وما هي إلا لحظات حتى صدح صوت الحق مزلزلا أرجاء الوجود ومردداً الأذان لصلاة المغرب بينما أبي رحمه الله انطلق مع المؤذن بالشهادة ومازال يكررها حتى فاضت روحه إلى خالقها وبارئها بكل يسر وسهولة مع انتهاء المؤذن {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}، مات أبي وماتت معه الأفراح التي منحنا إياها طوال حياتنا.. وجف بحر العطاء الذي كنا نستقي منه كؤوس السعادة وتساقطت أوراق شجرة الأمان الوارفة الظلال التي كانت تظلنا بأمنها وأمانها من مصائب الدهر وظروف الزمان.. فقدنا الرداء الذي كان يدفئنا بالعطف والرحمة.. أبي الذي كان يبث فينا روح الحماس ويعطينا الدافع بجمال الحياة ورونقها البديع إذا كانت على الصراط المستقيم وفي الثلث الأخير من ليلة وفاته كنا قد أنهينا مراسم الدفن ومع أذان صلاة الفجر عدنا إلى البيت من غير أب يرافقنا الحزن والأسى تساءلنا كيف سنقابل والدتنا وبقية الإخوة والأخوات؟! يا ترى كيف هو الوضع هناك؟ دخلنا وسلمنا عليهم وتبادلنا التعازي فإذا بأمي حفظها الله ومتعها بالصحة والعافية وزادها صبرا وإيمانا قد سيطرت على الموقف وهدأت من روعهم.. فزدنا صبرا بقوة إيمانها وعلى مدى الأيام الثلاثة من العزاء كانت ساحات استقبال المعزين قد اكتظت بالحضور من أبناء المنطقة ومن خارجها من مواطنين ومسؤولين بالإضافة لبعض الجنسيات من الدول العربية والإسلامية والصديقة جاءوا من كل مكان ناقلين أحر تعازيهم وصادق مواساتهم كانت الدموع قد خانت البعض منهم والبعض الآخر حاول حبس أحزانه لكنها كانت بادية على ملامحه.. بينما كانت شهادة الناس واحدة انه رحمه الله لم يخطئ على أحد ويعتدي ويظلم أحداً ويأخذ ما ليس له ولم يسمع انه في يوم من الأيام انه اشتكى منه أحد كان رحمه الله إنسانا مخلصا كريما عزيزا وأبا ناجحا ومربيا فاضلا حكيما وحازما في كل أموره وتصرفاته وصادقا مع نفسه والآخرين لا يحب تأجيل عمل اليوم للغد عرف بالمواقف المشرفة والأعمال الخيرية التي لازالت باقية إلى يومنا هذا.. عاش حياته في المجتمع المدني والعسكري شريفا ومات بكل الفخر والاعتزاز شريفا نقيا حمل راية السلام ورفعها عاليا لمن هم حوله.. لن ينسى المجتمع فجيعته بوفاة والده إثر حادث مروري أليم فكان أول المسارعين بالعفو والإصلاح ولم يأخذ هو وبقية إخوته أي شيء مقابل روح والدهم الطيبة بل اعتقوا المتسبب لوجه الله تعالى ولم يمض أقل من شهر حتى فجع بوفاة ابنه وفلذة كبده حين مضى عليه أكثر من ست ساعات غريقا في خزان الجيران ولن ينسى المجتمع والتاريخ حين رضي رحمه الله بالقضاء والقدر وخرج من المقبرة وتوجه لقسم الشرطة وسجل تنازله عن جاره دون أي مطالب أخرى وإيماناً منه بحقوق الجيران لم يهن عليه أن يبيت جاره تلك الليلة في السجن كان المسامح والمتسامح مع الآخرين دائما ما يقابل الإساءة بالإحسان {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}مات أبي وقد أعاد بيوتاً أسرية كادت أن تنهار وتفقد توازنها وتتفكك أواصرها كما بنى بيوتا أخرى حين وفق بين الكثير من رؤوس الحلال الذين يعيشون اليوم بأمن وسعادة وسلام.. ولازال سكان حي (الشارة) بمحافظة الداير بني مالك بمنطقة جازان يذكرون جميله ويشهدون لموقفه البطولي حين تكفل رحمه الله وعلى حسابه الخاص بإحضار المعدات الثقيلة لمساعدة شركة الكهرباء في إتمام مشروع إيصال التيار الكهربائي الذي ظل يطالب فيه حتى تمت الموافقة عليه. كان لنا رحمه الله الموجه والمربي والراعي الأمين المسؤول عن رعيته. وفر لنا سبل العيش المترف السعيد.. دائما ما يوصينا بالاحترام والتواضع والتكاتف وأن نخالق الناس بالخلق الحسن.. نعم هكذا غابت شمس الأحد وغاب أبي للأبد إلى الواحد الأحد الأحد الفرد الصمد رحل أبي للأبد.. هلت دموع الفراق.. سالت أودية الخدود امتلأت كل السدود حتى فاضت ثم سالت حتى صارت بحور من الألم ينزف منها الأنين ويئن من ألمها الجنين.. خرجنا بك من بيتك ونحن أربعة وعدنا إليه وقد صرنا ثلاثة كنت العدد الناقص الذي به صارت حياتنا ناقصة والمجتمع كذلك بدونك.. دروب الحب في حياتنا أظلمت وزرع فيها شوك الألم بعد أن أضأتها لنا بحنانك وزرعتها بكرم سجاياك بالورد الفواح.. خيوط الأمل في أيادينا تقطعت بعد أن أوثقتها ببقائك معنا أقبلت إلينا الدنيا بهمومها ومصائبها ومسؤولياتها بعد أن كنت الحاجز الأمني الذي يقف في وجهها والحصن الأمين الذي يدفعها عنا ويبعدها عن طريقنا حتى لا تتعثر حياتنا وتتلوث سعادتنا فيها.. أبي أنت العطف والرحمة والإنسانية التي مزجت فكانت (حسين) وأنت الاحترام والتعاون والتواصل والأخلاق التي عرفك بها الناس فكنت (القدوة في مضرب المثل) أبي والله كنت الأمل الجميل بجمال الحياة وبهجتها والصورة المشرقة بسعادتنا فيها.. كنت الينبوع العذب الذي يروينا إذا ظمئنا والمعطف الهنيء الذي يدفئنا إذا بردنا والنور الذي يضيء لنا دروب الحقيقة.. واجهت الحياة بقوة الرجال وتحديت الأيام بصمود الجبال فكنت الغالب بتوفيق الله وصدق توكلك عليه حتى إذا خرجنا إلى هذه الحياة وجدناها قد ملئت من الخيرات والبركات ما يضمن لنا ولأجيالنا حياة سعيدة وعيشة رغيدة.. كل ركنا هنا هو أنت وكل لبنة بنيت اكتست وتعطرت بعرق جبينك الطاهر.. تركتنا ونحن نبك على فراقك من على هذه الدنيا بينما أنت استقبلتنا بفرح سعادة قدومنا إليها لكننا بكل تأكيد كنا نبك كان الجيران والأقارب يحكون لنا عن قصص كفاحك وسعة صدرك وقوة إيمانك ومنها سهرك علينا ونحن صغارا والناس من حولك نائمون كان كل من عرفك وعرفنا.. يشهد لك بحسن تربيتك لنا وحرصك على صلاحنا ونجاحنا.. أبي عليك رحمة الله أجد التعبير يخونني والتفكير يحاصرني.. بل وأعجز أن أنقل عنك الصورة الزاهية ذات الألوان الحقيقية.. سامحني يا أبي أرجوك فالموقف أصعب مما كنت أتصوره.. أرجوك يا أبي أن تثق أننا بعدك يدا واحدة وصفا واحد نبقى على ما تركتنا عليه من أخوة وترابط وتراحم ونعدك بالمحافظة على مكانتك العالية وسمعتك الطيبة التي هي خير ما أورثته لنا بعد مماتك وهي الوصية التي كررها الناس ورددوها في أكثر من مناسبة.
-الحرس الوطني بالرياض