حينما بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام دعوته المباركة بعد أن أوحى الله إليه وبلغه جبريل بالرسالة، وخاطبه ربه سبحانه وتعالى بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ} بدأ بغرس شتلة الثقة بالله أولا، ثم بالدين الذي جاء به، ثم بمن يعتنق هذا الدين، في قلوب أصحابه الكرام، غرسها في تربة صالحة، وظل يتعهدها بالسقاية حتى نمت وترعرعت، وأصبحت ذات أصل ثابت، وفروع مثمرة مباركة.
(إن شجرة الثقة) شجرة قوية قادرة على الصمود أمام عواصف الأباطيل والحقد، والضلال، وهي ذات فروع قابلة للامتداد، ونشر ظلالها على أهلها في كل مكان.
الثقة بالله سبحانه وتعالى، ثم بالمبدأ أو العقيدة، ثم بالثقافة والفكر المنتميين إلى هذه العقيدة، ثم بالإخوة والأصحاب المنتمين انتماء صادقا إلى هذه العقيدة، هذه الثقة ضرورة لبناء مجتمع متماسك، ودولة قوية، وإنما تنهار الدول - لمن يتأمل - حينما تنهار هذه الثقة بهذا المعنى.
في المدينة المنورة اكتملت شجرة الثقة بالمؤاخاة التاريخية المتميزة التي حققها الرسول صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في المدينة، فلم يعد هنالك مجال للشياطين من الإنس والجن أن تنال تلك الشجرة بسوء، حتى إذا حاولت الأيدي الآثمة أن تضرب جذعها بمعاول التمزيق، ارتدت كليلة صاغرة، وربما بترتها الثقة، واستأصلتها.
يؤكد الفلاسفة والدارسون لأحوال الشعوب والمجتمعات أن التفرق بين أبناء الأمة الواحدة، والشعب الواحد، إنما هو نتيجة لعدم الثقة بين أفراد هذا الشعب، وتلك الأمة، وإنما ينتشر داء عدم الثقة حينما لا تكون هنالك أسس واضحة تبنى عليها الثقة، وتربة صالحة تغرس فيها شجرتها المباركة. ويؤكد أولئك الدارسون أن أفضل تربة لغرس شجرة الثقة هي تربة العقيدة الثابتة، والمبدأ المستقر الذي يرجع إليه جميع أفراد الأمة والمجتمع، ويجدون في هذا الرجوع ما تطمئن إليه النفوس من الحق الواضح، وما يستريح إلى الاحتكام إليه المختلفون. وإذا أردنا أن نستشهد بشيء من عصرنا هذا، فإن ما قاله (روبرت سي سولومون) في كتابه (بناء الثقة) يصلح للاستشهاد، حيث يضرب مثلا بالحكومة الأمريكية المعاصرة، مؤكدا أن هنالك حالة خطيرة من عدم الثقة بين الفئات السياسية في المجتمع الأمريكي، وصلت إلى كثير من أتباع تلك الفئات من الشعب، مؤكدا أيضا أن السبب هو بداية إهمال شجرة الثقة التي غرست في تربة المبادئ السياسية الأمريكية المشتركة، وهو إهمال تجاوز عدم الحرص على سقايتها إلى ضربها أحيانا بمعاول الانتهاك.
الثقة الحقيقية لا تقوم على أرض هشة، و شجرتها لا تنبت في تربة سيئة تكثر فيها الديدان والحشرات والنباتات المتسلقة الطفيلية.
هنالك أزمة ثقة في مجتمعاتنا العربية المسلمة، تتجلى بوضوح في هذا الشتات السياسي والثقافي الخطير، وهنالك أزمة ثقة في ساحتنا الثقافية والفكرية السعودية تبرز في هذا التناقض الهائل بين الآراء المطروحة في كثير من المسائل المحسومة شرعا.
إننا - بفضل الله - نملك العقيدة التي يمكن أن تنمو فيها شجرة الثقة بالله أولا ثم بالقيم والمبادئ المنبثقة من تلك العقيدة الصافية وهذا يعني أن ذلك التراشق الخطير بين أبناء المجتمع المسلم الذي يرجع إلى دين شامل كامل مستقر، سيزول حينما نعيد العناية بشجرة الثقة، ونبني جدارها الذي يكاد ينهار.
قال فاكلاف هافل لشعب تشيكو سلوفاكيا بعد الثورة التي أنهت خمسين سنة من الشيوعية والرعب: (يجب أن نتعلم كيف يثق أحدنا بالآخر، ولا يأتي ذلك من فراغ - وإنما يأتي من وجوب الاحتكام إلى مجموعة من القيم نتفق عليها، ولا نخدشها - مهما اختلفنا -.
هذا كلام من نعرف - نحن المسلمين - مدى بعدهم عن القيم الثابتة التي شرعها الله لعباده. فكيف يصل بنا الأمر إلى هذه الدرجة من الاختلاف الذي نضرب بمعاوله جذع شجرة الثقة، عقيدتنا واضحة، ومبادؤنا ثابتة، ولا يمكن بناء الثقة الحقيقية فيما بيننا في هذه المرحلة الحرجة إلا بالرجوع إليها، والرضا بها، وعدم الإساءة إلى ثوابتها الراسخة، فهل نتنبه؟
إشارة: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا}.