قراءة - حازم السند
جوهرة القصر دراما كورية من إنتاج شركة mbc الكورية، وقد ترجمت إلى اللغة العربية وعرضت في عدد من التلفزيونات المحلية وسبق أن لاقت نجاحا كبيرا في التلفزيونات العالمية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
من هم الكوريون وكيف يعيشون ما تاريخهم كيف هي بيئتهم، مبادئهم، وقيمهم ومثلهم العليا؟ أسئلة ما كان ليحضر في ذهن المشاهد العربي شيء من الإجابة حولها لو لا الفن حين قام بدوره المحوري: الفائدة والتعريف بحضارة الأمة المنتجة والقيام بتصويرها باحترافية وإبداع دون الإخلال بالمعايير الفنية الحديثة!
بدت لنا هذه الدراما الكورية راقية ومنمقة ترسم شخصية نبيلة اجتمعت فيها خصال الخير وهي تعني في البعد الروائي الأنموذج الكوري والرؤية الجمعية التي تؤسس شخصية الإنسان الكوري الأصيل!
عرض سريع:
يحكي الكاتب yeong - hyeon kim قصة فتاة في أحد العصور الكورية القديمة، ما بين 1494 - 1544 وهي فترة زمنية مفعمة بالأحداث والوقائع المهمة نشأت بطلة المسلسل jang Geum في القصر الملكي، وهو عامر بالعديد من الشخصيات المهمة في المملكة، وتدرجت بعدما بان ذكاؤها، حتى وصلت إلى (وصيفة ملكية)، وذلك عائد إلى حذقها الشديد في الطبخ وإعداد الطعام بما يتناسب مع رغبة الملك أو احتياجاته لكن ذلك لم يرض عائلة (تشوي) وهي عائلة لها نفوذها في القصر الملكي سعت إلى منازعة (جونجوم) المكانة، وتمكنت من طردها هي ومعلمتها بالحيلة الخبيثة، والمكر الدنيء، إذ لفقت لها تهمة دس السم في طعام الملك واستعمال مواد محظورة في أكله حتى قرر القضاء (نفي كل من الوصيفة الأولى) (هان) و(جونقوم) إلى (جزيرة جيجو) وقد ماتت (هان) في الطريق إلى المنفى، ونزلت مرتبة (جانقوم) إلى (أمة) بعد أن كانت وصيفة أثيرة، وبدأت حياتها في تلك (الجزيرة) بمحاولات للهرب والعودة للقصر، لكنها اكتشفت لاحقا ان ما من شيء سوف يعيدها للقصر وأخذ ثأرها سوى مهنة الطب، فبدأت كممرضة (على يد الطبيبة جاندوق)، وساعدها على سرعة التعلم معرفتها المتميزة بالطبخ، ورغبتها الشديدة في مساعدة الآخرين، خاصة البسطاء والرعاع وقبل ذلك طموحها إلى تبرئة معلمتها المظلومة، وفضح المنافسة الآثمة وشيئا فشيئا حتى بلغت شأناً عاليا في تعلمها للطب، وتأكد ذلك باكتشافها الدواء لكثير من الأمراض، ولما وقعت الاوبئة والكوارث في البلد برز دورها المؤثر في علاج المصابين والمنكوبين حتى عاد ذكرها إلى القصر مرة أخرى وعادت لتسهم في علاج الملكة حين أصيبت بمرض أضناها طويلا وكان ان عرفت ان خصمها اللدود قد تمكن من القصر، فقد تقاسمت (تشوي) وابنة أخيها المناصب، ولم يكد يمضي حين حتى اثارت بذكائها - وللمرة الثانية - حسد زميلاتها من الممرضات وهو الأمر الذي أدى إلى اتفاق (تشوي) مع احدى الممرضات (يولي) بالكيد لها، وتم ذلك ونجحت الخطة الكيدية وأصدر قرار نقل (جونقوم) مرة أخرى إلى المستشفى العام، لكنها لم تتضرر كثيرا بل عادت إلى المزيد من البحث الطبي وبقيت مكانها هناك إلى ان اهتز القصر حين أشيع ان (الملك أصيب بداء مجهول وخطير) مما اضطرها إلى العودة إلى القصر ومعالجة (الملك) بطلب من الملكة ذاتها - وقد تعافي على يدي جونقوما من هذا الداء الخطير واستحقت العودة مجددا إلى مكانتها العالية، لكنها هذه المرة سعت إلى كشف الماضي الأليم، وفضح حاسديها والكائدين حتى استطاعت كشف الأمر كله، وتعرية الضالعين في اتهام معلمتها والمتعمدين الاساءة إليها، ولاقى كل مجرم قدره المحتوم.
ولم تكد تمضي فترة حتى (مرض ابن الملك بمرض الجدري، فسعت إلى علاجه، وشفي على يديها) وبهذا وقف الملك حائرا لا يعرف كيف يكافئها ولم يجد منصبا يستحقها سوى ان تكون (الطبيب الملكي)، وهو منصب لا يجوز قانونا ان تتولاه امرأة لكنه أصر مما استدعى تحرك جميع المسؤولين في القصر ضده، حتى أقلع - كرها - الملك عن هذا القرار، ومن ثم فكر في منحها مكانة أخرى، ولم يجد أعلى من أن يجعلها (الطبيب الخاص)، ويخلع عليها لقب (جونجوم العظيمة)، لكن المسؤولين حملوا في أنفسهم الكثير ضد هذه المرأة ووعدوا بالانتقام منها خاصة بعدما مرض الملك مرض الموت وحاولت علاجه من آلام معدته، وصرحت بأن العلاج لن يكون إلا بشق البطن، وهو في تلك الأيام شيء منكر، وأمر خارج عن العقل، واعتبرت فكرتها هذه تهمة تستحق عليها العقاب، فأصدر قرار بمعاقبتها وما كان من الملك الذي استسلم للمرض إلا ان يبعد جونقوم إلى مكان آخر حتى تعيش ويستفيد منها الناس البسطاء، وبعدما مات الملك مضت السنون وجونقوم العظيمة هاربة وتعيش بعد زواجها مع ابنتها في مكان بئيس، مدقع الفقر تعمل طبيبة وزوجها معلما إلى ان عرفت الملكة عن جونقوم وطالبتها بالعودة ومن ثم عادت إلى القصر معززة غير مهانة، تحمل اللقب الكبير (جونقوم العظيمة).
رؤية فنية
ان المستوى الفني للمسلسل كفيل بانتشاره وإقبال الناس عليه وهو من الروائع الكورية التي تشد المشاهد وتجعله يتفاعل بقوة مع الحكاية ويحاول التنبؤ بما سوف يحدث وقد تمكنت الآلة الاخراجية من تصوير ما ينسجم مع واقع الشخصية فالملك لا يعيش في قصر عادي وإنما ما نراه شبيها بالمدينة الكاملة مليئة بالجنود والخدم وهو يعكس القوة الاقتصادية لكوريا والمكانة الحقيقية لذلك الملك، كما ان الأثاث والزخرفات المعمارية هي مثال كوري خالص وتجسيد حقيقي للثقافة المعمارية الكورية وعرض معبر جدا عن الحياة الملكية بكل تفاصيلها وتدرجاتها ولا تقف الكاميرا فقط على القصر بل تخرج بعيدا إلى أماكن شديدة الوعورة وأخرى بديعة لابيئة وثالثة تنقل حياة العامة وتعاملهم مع بعضهم وموقفهم من الكوارث ومن الملاحظ ان التصوير الخارجي كان أكثر ضعفا من داخل القصر إذ الشخصيات البسيطة مهمشة إلى ابعد الحدود ولا دور فاعلا لها وهي غاية في السذاجة وتنقل لنا الكاميرا تحركات غير مدروسة لهؤلاء العامة وتفاعلا سامجا مع القضايا الكبيرة وهذا ربما يكون ناتجا عن رغبة المخرج في مفاجأته بالمفارقة الكبيرة بين البيئتين الملكية والسوقية، وربما راى أنه لن يتمكن من إظهار ترف الملكيين إلا إذا بالغ في تشويه الفقراء، وتقبيح صورتهم حتى رأينا وجوههم مكفهرة سوداء كأنها طليت بالسخام - سواد القدر الملهوب بالنار - وشعورهم مبعثرة وحالتهم شديدة الرزء بينما رواد القصر في غاية الجمال والأناقة، ذوو خطوات موزونة، وأحاديثهم منمقة ومرتبة!
رؤية موضوعية
أعطى المسلسل صورة كاملة عن المطبخ الكوري وأنواع المأكولات الملكية التي تمثل أشهى ما يصنعه المطبخ الكوري وهي نقطة مهمة في الثقافات العالمية فلابد من دخول المطبخ للتعرف على مكنونات الثقافة لأي أمة، وهذا مما يحاول إحياءه حتى في بلادنا - المملكة العربية السعودية -.
ومن القضايا المهمة أيضا وهي تمثل إحدى محاور هذا المسلسل التطرق لشأن المرأة ومكانتها في المجتمع آنذاك، وقد كان المجتمع الكوري محافظا له طقوس شديدة الخصوصية خاصة في التعامل مع المرأة، حتى اننا نرى اللباس طويلا وفضفاضا ولا تبدو عليه أمارات الإغراء أو التهتك وهي نقطة شديدة الأهمية في قراءة الذهنية الشرقية عموما كما أن المرأة في حديثها للرجل تخضع رأسها ولا تنظر في العينين مباشرة، بل تحاول الممثلة اطهار شيء من الحياء كما يصور المسلسل احترام الملك لوالدته الملكة وتوقيره الشديد لها، وانصياعه لما تقول، إلا أن المرأة لا يمكنها ان تحوز شيئا من المناصب القيادية، كأن تكون وزيرا أو طبيبا ملكيا وهي حقيقة مدونة دستوريا لا تقبل النقاش، بينما تنحصر مهامها في جانب تدبير شؤون المطبخ لملكي والعناية به، هذا في أقصى المناصب المتاحة، أما سواها فهي تقوم بدور الطبيبة المساعدة، أو الممرضة أو الطباخة، أو الوصيفة الخاصة بالملكة ومايشبهها من الشؤون الداخلية المحدودة، لكن (جونقوم) المرأو الأسطورة كانت مع طيبة قلبها وبساطة نفسهاتحمل هم بنات جنسها اللواتي وصفتهن بالتالي :(إن غاية ما تناله الممرضة المخلصة التي تتسبب في برء مريض أن يطلب منها ذلك الرجل اني خلو بها، بينما لو كان طبيبا (ذكراً) لحاز المجد ولكوفئ بمنصب عال، وهي تشير إلى انها اجتهدت واصابت في اجتهاداتها كلها، وتسببت في الكشف عن أوبئة وأمراض، لكنها تعود ممرضة عامة، لا قيمة لها وهو الأمر الذي دعا الملك إلى اتخاذها طبيبة ملكية لكن هذا يعد مخالفة للدستور، وجونقوم تراه إعادة لاعتبار المرأة فأرادت أن تحظى بهذا المنصب لكن المجتمع المخملي ضرب بيد واحدة وتحدث بصوت واحد ضد هذا القرار متحديا الملك بذاته، (إذ لا يصح أن يكون الطبيب الملكي امرأة..!).
هذا البعد العاطفي الثوري الذي انتهجته جونقوم يحتاج إلى بحث في واقعيته، وهل هو حكاية بالفعل حدثت في كوريا، أم هو تأثر بالفكر (الدرامي) الغربي ذي النزاعات النسوية التحررية!
كانت (جونقوم) لسانا ناطقا عن جميع النسوة في كوريا ومع ذلك لم تفلح كثيرا في كسب الأصوات لتحقيق الغاية التحررية، وإنما كان الرجل دوما - اعتمادا على صلاحياته المطلقة -، شديد الخصومة لها، ولم يتفق معها سوى رجلين من الرجال هما زوجها، والآخر طبيب بسيط.
نقل المسلسل صورة الملوك في ممالكهم، وكيف ان الأمر لم يكن بيد الملك وحده حيث يأمر بما يشاء وينهى عما لم يشأ بل كان مسربلا بالبطانة، ومحاطا بالوزراء، والأعيان ممن يملون عليه الرأي، وينقلون إليه الحقيقة حسبما يريدون وهي صورة تنبئ بأسرار الملوك الخاصة، وتحاول الكشف عن بعض الأخلاقيات، والقواعد المرعية في نظام القصور الملكية وان الملك ليس مطلق السلطة بل تدخل الوزراء والأعوان هو من يصنع القرار وكان عرضا معبرا عن حياة جملة كبيرة من الملوك.
جونقوم المرأة المثالية تجسد نموذجا أخلاقيا راقيا، تعفو عمن ظلمها وتتناسى مكر حاسديها وتغض الطرف عن الكائدين لها وتعطف على الناس وتحسن إليهم دون منّ أو أذى، كما أنها شديدة الوفاء لمعلمتهان مخلصة للعائلة الملكية ومؤمنة إيمانا لا يشوبه نقص بمبادئ وأخلاقيات نبيلة قلما توافرت في نفس إنسان...! لقد كانت سعادتها في خدمة المساكين، وأنسها بمعاونتهم.
كانت جونقوم جديرة باللقب العظيم (جونقوم العظيمة)، وقد استحقت هذه الانتصارات المتكررة، والجولات الناجحة المتوالية مع خصومها، لتثبت جدارتها، وصواب رأيها، لكنها مع كل عظمتها وعصاميتها أخفقت في كسب قضيتها الأخيرة، في إعادة الاعتبار لبنات جنسها!
لكن عزاءها الوحيد أن بناتها الكوريات اليوم يتمعتن بـ(أكثر) مما طالبت به!