دومة الجندل أو (أدوماتو) كما كان يسميها الآشوريون إبان تواجدهم الحضاري وبسط نفوذهم على تلك المناطق في التاريخ الموغل في القدم....... الدومة كانت محطة أنظارنا في اليوم الثاني من رحلتنا إلى منطقة الجوف، ونحن في مكان الإقامة في مدينة سكاكا حيث..... |
وجدنا فيه من سبل الراحة ما أزال تعبنا وأراح أبداننا. وبعد تناول طعام الإفطار صحبنا الأستاذ سالم الزارع لكي يرشدنا إلى أهم المواقع الأثرية في الدومة، وفي طريقنا إليها ذكر لنا الأديب صالح الناصري أن دومة الجندل تقع جنوب غرب مدينة سكاكا، كما تتميز بوفرة مياهها العذبة، وبها قلعة عظيمة تطلق عليها (قلعة مارد)، وتعتبر من أهم القلاع الأثرية في شمال المملكة، وهي عبارة عن قلعة مسورة تقع على تل مرتفع، ويرجع أقدم ذكر للحصن إلى القرن الثالث الميلادي عندما حاصرتها الملكة (الزباء) ملكة تدمر ولم تستطع فتحها، فقالت مقولتها المشهورة (تمرد مارد وعز الأبلق)، ويؤكد ذلك ما أشار إليه المؤرخ العلامة الشيخ حمد الجاسر في كتابه (في شمال غرب الجزيرة، نصوص، مشاهدات، انطباعات) بقوله رحمه الله: (إن المطل من أعلى الحصن من ارتفاعه الموجود الآن لا شك أنه يرى كل ما يقدم إلى هذه البلدة من مسافات شاسعة. وبالإجمال فقد كان هذا الحصن من أقوى وسائل الدفاع عن دومة الجندل.....)، وبعد ذلك وتوجهنا مباشرة إلى متحف الجوف للآثار والتراث الشعبي في دومة الجندل وكان في استقبالنا مدير المتحف الأستاذ المتميز أحمد القعيد حيث باشر في تقديم تعريف مختصر وبشكل مهني عن المتحف حيث ذكر لنا أن إدارة المتحف تقدم أفضل الطرق لتوثيق وصيانة وحماية المواقع الأثرية والتاريخية المهمة في منطقة الجوف في محاولة لاستخدام أفضل الأساليب لتوثيقها وحفظها، واطلاع الزوار الذين يتوافدون من مختلف دول العالم على الآثار والتاريخ والتراث الشعبي المحلي في منطقة الجوف، وإبراز المظهر الحضاري والتاريخي للمنطقة، ويتبع هذا المتحف حاليا الهيئة العامة للسياحة والآثار، ومما لا حظناه في هذا المتحف أنه يبدأ بعرض بعض النصوص والصور التي تتحدث عن بداية الإنسان وتكوين الأرض والطبقات الجيولوجية بها، ومن ثم عرض العصور الحجرية حتى العصر الجاهلي من خلال عرض مجموعة من القطع الحجرية والفخارية ولوحات من النقوش والكتابات الحجرية، ولاشك أن اللوحة التي تصور المعركة بين الآشوريين والعرب، والتي تعطي احتمالاً بانتصار الآشوريين، وهذه اللوحة وجدت في قصر الملك (آشور بانيبال) وموجودة الآن بصورتها الأصلية في متحف في لندن، وفاضت قريحة الأستاذ محمد الفايز بأبيات جميلة تعكس تأثره البالغ وتفاعله مع تلك اللوحة بقوله: |
ووقفنا أمام لوحة رسم جاد فيها الإبداع أزهى فنونه |
بيننا ولآشور كر وفر شهدتها أحداث أرض حزينة |
فتجلى المكان فينا ونادى بصدى الخطو يستهل سكونه |
أطبق الصمت فالحضور خشوع رهبة الحرب سطوة مجنونة |
بالإضافة إلى تلك اللوحة هناك صور ومشاهدات تحكي عن كل فترة من فترات ماقبل الإسلام وبعده...، ويوجد في المتحف قاعة تصور بعض مشاهد توحيد المملكة العربية السعودية وتتحدث عن بداية الدولة السعودية الأولى إلى عصرنا الحاضر، وذلك بعرض لوحات وصور عن فترات الدولة السعودية....، ومما لاحظنا أيضا في المتحف قلة العروض التي تعكس التحف والتراث الخاص بالنساء حيث لا توجد غير كابينة واحدة وصغيرة لهذا الغرض...... بعد نهاية جولتنا في المتحف شكرنا الأستاذ القعيد على وصفه ومعلوماته القيمة عن تاريخ المنطقة، وتوجهنا مع الأستاذ الزارع إلى قلعة مارد ووقفنا أمام القلعة التاريخية بأبراجها المخروطية الشكل في جهاتها الأربع، ويوجد بداخل القلعة بئران عميقتين تكاد تسمع خرير الماء فيهما، ومباني القلعة شاهقة الارتفاع حيث بنيت على مراحل تاريخية متفرقة، ويستطيع من يعلو فوق القلعة أن يشاهد أجزاء كبيرة من الدومة، وعند دخولنا القلعة رأينا عمال بناء بسطاء يحاولون أن يعيدوا ما تساقط من القلعة بالطرق التقليدية وهي اللبن المصنوع من الطين وهذا ما أثر بنا حيث قلت لأعضاء الرحلة كان يجب أن تبنى من حجارة (الجندل) وخاصة أنه متوفر في المدينة وبكثرة ناهيك أن الآثار الآن تحت مظلة الهيئة العامة للسياحة والآثار، ومن منبر جريدة (الجزيرة) نرفع للمسؤولين في الهيئة أن يبادروا بإعادة البناء وبشكل متوافق مع ماهو موجود منذ القدم وخاصة عند إعادة بناء سوق دومة الجندل، ويعتبر ذلك السوق من أوائل أسواق العرب الموجودة قبل الإسلام، وينطبق المشهد الذي لاحظناه في إعادة البناء على الكثير من المواقع الأثرية في المملكة.... |
بعد ذلك توجهنا إلى مسجد عمر بن الخطاب حيث يقع المسجد في وسط المدينة القديمة في دومة الجندل، ويعتبره المؤرخون من أهم المساجد الأثرية في المملكة، وتنبع أهمية المسجد من تخطيطه المحكم، وهو على شكل مستطيل تقريباً ويمتد من الغرب إلى الشرق بطول 33م وعرض 18 مترا، ويتكون المسجد من عدد من العناصر المعمارية المتميزة وهي: رواق المسجد، المحراب والمنبر، صحن المسجد، الخلوة، ويشتهر المسجد بمئذنته الحجرية غير العادية التي يبلغ ارتفاعها حوالي 13 مترا تقريبا (انظر: عيد الجوف، عدد خاص بمناسبة زيارة خادم الحرمين الشريفين). |
سلكنا بعدها الطريق المؤدية إلى (البحيرة)، فإذا الستار ينحسر فجأة عن عالم من الروعة كان مخبأ ومستتراً، إنها البحيرة المائية، التي من حقها أن تسمى (بحيرة المملكة) أو حتى (بحيرة الشمال). |
مدينة دومة الجندل غدت اليوم مدينة عصرية، وبها مناظر غامضة كصور الحلم، وهي غنية بالصور والمشاهد التاريخية والمعطيات التنموية التي تجعلنا نتفاءل بأن الدومة ينتظرها مستقبل زاهر في المجال السياحي خصوصاً والتنموي عموما. أخيرا ذكر لنا الأديب الناصري قصيدة شاعر العربية العظيم (المتنبي) حين أشار في رحلته الشهيرة وهروبه من مصر بذكره الجزء الخاص بالجوف بقوله: |
وَجابَت بُسَيطَةَ جَوبَ الرِداءِ |
بَينَ النَعامِ وَبَينَ المَها |
إِلى عُقدَةِ الجَوفِ حَتّى شَفَت |
بِماءِ الجُراوِيِّ بَعضَ الصَدى |
وَلاحَ لَها صَوَرٌ وَالصَباحَ |
وَلاحَ الشَغورُ لَها وَالضُحى |
وأضاف الناصري بأن المقصود بعقدة الجوف كما أشار إليها المؤرخون هي دومة الجندل....يتبع |
|
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«6796» ثم أرسلها إلى الكود 82244 |
كاتب وأكاديمي سعودي |
|