رغم مرور أكثر من عقد من الزمان على دخول المجتمع السعودي في عالم الإنترنت وتقنية الاتصالات الحديثة والقنوات الفضائية إلا إن الجدران العالية داخل العقول والمبنية من صلابة الخطاب العنيف ضد الأخر المختلف في
..الرأي أو المذهب لا تزال صامدة أمام رياح التغيير، وتفرض خصوصاً على المخالف في العقيدة العزلة الاجتماعية التي تحد من اندماجه في المجتمع في وحدة وطنية متجانسة، وهذه العوازل العقلية التي تُستنزف في بنائها القدرات الذهنية والمالية تزيد من تباعد مسافة الفصل بين فئات المجتمع من مختلف الاتجاهات، وتؤثر سلباً في الوحدة الوطنية..
ما تأسس في العقول من جدران وأسوار عالية ورفض مستمر للتحديث، يظهر بوضوح أيضاً في تصميم المساكن وأسوارها فالمنزل مرآة العقل الذي يمكن اعتباره مجموعة الأفكار والعواطف وما إلى ذلك من الطبائع التي اكتسبها من البيئة المحيطة به، والأحياء السكنية الحديثة تعكس تماماً ما في داخل العقول من انغلاق فكري، فالخوف من الجار كما هو الحال في الموقف من الرأي الآخر يظهر للعيان في أساليب بناء المساكن الحديثة، فالأسوار الأسمنتية العالية تزداد ارتفاعاً عاما بعد عام، وعندما تصل إلى علو لا تتحمل من بعده ارتفاعا آخر، يُضاف إليها ارتفاعات أخرى بواسطة ألواح من البلاستيك الذي لا يتغير ولا يتأثر بالعوامل البيئية..
كان فرض تصميم الفيلا العصري محلياً حسب وجهة نظري خطأ معمارياً، كان هدفه بناء أحياء سكنية حديثة من خلال إلزام صاحب المنزل أن يبني منزله بارتداد محدد من السور حول (الفيلا) السكنية، بينما كان البيت العربي القديم لا يلتزم بارتداد ويُبنى عادة جدار المنزل على حدود الأرض من جميع الجهات، ويكون الفناء والحديقة المنزلية داخل البيت، ومحاطاً بالمنزل من جهاته الأربع الداخلية، وهذا التصميم لا يزال حياً في المدن العربية في الشام، بينما قُضي عليه تماماً في المدن والقرى السعودية...أدى فرض أسلوب الفيلا العصرية إلى مقاومة من السكان المحافظين، فقد تم تشويه الأحياء السكنية الحديثة والمنازل العصرية تدريجياً بالسواتر البلاستيكية والحديدية حول المنزل من مختلف الجهات، ليصبح المنزل محاطا بأسوار عالية ومشوهه بالكونكريت والحديد والبلاستيك.. ويكون التشوه العمراني أحد معالم المدن والقرى السعودية..
كذلك هو الحال في قضية تحديث العقول وفرض القيم الإنسانية من خلال الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان ومؤتمرات الحوار الوطنية ودعوات الديموقراطية والمجتمع المدني، والتي لم تُحدث تغييراً يُذكر إلى الآن في تقدير الناس للأفكار الحديثة في العمل الاجتماعي، فالمجتمع لا زال يرفضها بتطرف أكثر شدة من ذي قبل، ويقاومها بجدران أساسها ثقافة الانعزال والانكفاء الذاتي الذي أضحى ظاهرة ملحوظة في حواراتنا الثقافية، ويبدو أن المحافظة الشديدة سمة من سمات البيئة الصحراوية القاسية مهما حدث من تغيرات وطفرات اقتصادية، فالجفاف البيئي يولد تصحرا وتضاريس متحجرة داخل العقول، وبالتالي تصيب عوامل التعرية سلوك وطبائع البشر وتجعلها غير مرنة، وغير قادرة على الاتصال مع الثقافات الأخرى، وهذا يخالف تماماً طبائع البشر على السواحل، والذين يتمتعون بمرونة أكثر في معاملاتهم الإنسانية....ويتضح ذلك في طريقة بناء المنازل على المدن الساحلية..
كان للصحوة الإسلامية كما يُطلق عليها دور رئيسي في تحريك المياه الآسنة في المجتمع السعودي، فالحراك الثقافي والاجتماعي أصبح ملحوظاً منذ بدأت ظاهرة الصحوة تجتاح الفئات العمرية الشابة.. لم يكن خطابها في البدء في غاية التطرف، لكنها في حكم المؤكد مهدت الطريق لمآسسة الرؤية الأحادية، وهذا لا يعني أنها لم يكن لها بعض الإيجابيات، فقد رافقها شيء من ملامح دعوات الإصلاح المدني، لكن هذه الملامح تلاشت بعد أن تم تحميل هذه الظاهرة الدينية ما حدث من عنف وإرهاب وتطرف محلي، ولا تزال أصابع اللوم توجه أحياناً للقيادات التي كانت تقوم بدور الإرشاد والوعظ لذلك الجيل، لكن هذه القيادات تغيرت وتبدلت أدوارها، وخرجت بعضها من مواقعها إلى مواقع أقل تطرفا وتشددا، وأصبحوا دعاة لثقافة التسامح، وظهر أحدهم في الإعلام برفقة عالم دين من طائفة أخرى، ومع ذلك لم تتبدل لغة التطرف والإقصاء، بل إنها حسب وجهة نظري ازدادت عنفاً، واستطاعت هذه العقول معالجة غياب القيادات القديمة بصنع زعامات أخرى أكثر تطرفاً ومحافظة من رواد الصحوة الأوائل، وأقل حرصاً على الإصلاح المدني.. وأكثر تغذية للفكر السلفي المتزمت جداً..
هذه دعوة أولاً لهيئات التطوير العمراني في المملكة في أن يسمحوا لتصميم البيت العربي القديم أن يعود للأحياء من أجل إنقاذ الأحياء السكنية من التلوث البصري، ومن ظاهرة السواتر البلاستيكية والحديدية في الأحياء الحديثة، فسكان هذه الأرض محافظون، ويرفضون العصرنة المعمارية تماماً مثلما يرفضون التحديث المعرفي والحضاري والإنساني..، وثانياً أن يعي المسؤولون شدة تأثير البيئة المتصحرة والجفاف وندرة المياه والفقر على تطرف العقول، وأن تكون أول خطوات تطبيق إستراتيجية البناء والتطوير معالجة هذه العوامل السلبية، وتهيئة المجتمع لكي يشارك بفعالية في بناء بيئة أكثر جمالاً وأقل قسوة، وذلك من أجل رفع الذوق العام، وهو ما قد يساعد في الحد من تدهور حالة الجمود العقلي والمعرفي والإبداعي عند سكان هذه الأرض الطيبة..