السمع والطاعة لولاة أمر المسلمين أصل عظيم من أصول عقيدتنا الإسلامية، فقد خصها علماء السلف بمزيد عناية في كتبهم، فلا تكاد تجد كتاباً من كتبهم في باب العقائد إلا وقد تطرق إلى تقرير هذا الأصل العظيم وتفصيله وبيانه، وذلك لما له من أهمية كبرى ومكانة عظمى؛ فبولاة الأمر تنتظم مصالح المسلمين، وتجتع كلمتهم، وتؤمن سبلهم، وتقام صلاتهم، وبدونهم تتعطل الأحكام، وتعم الفوضى، ويختل الأمن، ولا يأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) (يجب أن يُعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدّين بل لا قيام للدين إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس) إلى أن قال رحمه الله: (ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد، ونصر المظلوم وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة).
ثم إن طاعة ولاة أمور المسلمين مما عُلم وجوبه من دين الله بالضرورة، وتضافرت عليه نصوص الشريعة.
فمما يدل على عظم شأن طاعة ولاة الأمر أن الله عز وجل قرنها بطاعته سبحانه وطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم-، فقال جل شأنه:{أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}.
قال ابن كثير - رحمه الله- في تفسير قوله تعالى:{وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ}. والظاهر والله أعلم أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء).
وأما الأحاديث الواردة في وجوب السمع والطاعة، فهي كثيرة بلغت حد التواتر، فمن ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم-: (أمر بطاعة ولي الأمر ما لم يأمر بمعصية الله عز وجل، فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما، من حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية فإن أمر بمعصية، فلا سمع ولا طاعة).
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي: (وفيه أن الإمام إذا أمر بمندوب أو مباح وجب).
ونهى صلوات ربي وسلامه عليه عن قتال الأمراء ولو كانوا ظالمين، ما أقاموا الصلاة، فعن أم سلمة - رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (سيكون بعدي أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن أنكر فقد برئ، ومن كره فقد سلم، ولكن من رضي وتابع، قالوا: أفلا ننابذهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) أخرجه مسلم.
كما نهى عن الخروج عليهم ومنازلتهم وقتالهم، إلا إذا أتوا كفراً صريحاً عندنا فيه برهان من الله تعالى: فقد ثبت في الصحيحين عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه- قال: (بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في السر والعلن، وعلى النفقة في العسر واليسر والأثرة، وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن نرى كفراً بواحاً، عندنا فيه من الله برهان).
وقضى - صلى الله عليه وسلم- بوجوب طاعة الأمراء وإن بلغوا في الجور إلى ضرب الرعية وأخذ أموالهم، فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيكم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، فقلت: كيف أصنع إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك) أخرجه مسلم.
وبلغ من تأكيده - صلى الله عليه وسلم- على وجوب طاعة ولي الأمر أن أمر بطاعته وإن كان عبداً حبشياً، فروى البخاري عن أنس - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة، ما أقام فيكم كتاب الله).
و من أصول عقيدة أهل السنة، لزوم الجماعة، وهم سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين: الذين اجتمعوا على الكتاب والسنة، وساروا على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ظاهراً وباطناً.
ودلَّ على وجوب لزوم الجماعة كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ، وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} الآية.
ذكر ابن جرير - رحمه الله- في تفسيره أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (حبل الله، الجماعة).
فهذا دليل ظاهر على وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة ولزوم جماعة المسلمين، ونهي صريح عن الاختلاف والتفرق.
كما قال سبحانه محذراً من الافتراق في الدين:{وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
وعن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه- قال: (كان الناس يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني) إلى أن قال: (قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت: يا رسول الله، صفهم لنا. فقال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا، قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم) الحديث. متفق عليه.
قال ابن حجر - رحمه الله- في فتح الباري: (قال ابن بطال: فيه حجة لجماعة الفقهاء في وجوب لزوم جماعة المسلمين، وترك الخروج على أئمة الجور).
وكان سلف الأمة يأمرون ويحثون على لزوم الجماعة، فقد أخرج اللالكائي في اعتقاد أهل السنة، عن ثابت بن العجلان قال: (أدركت أنس بن مالك، وابن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء بن أبي رباح، وطاؤوس ومجاهد، وعبدالله بن أبي مليكة، والزهري، ومكحولاً، والقاسم أبا عبدالرحمن، وعطاء الخراساني، وثابتاً البنائي، والحكم بن عتبة، وأيوب السختياني، وحماداً، ومحمد بن سيرين، وأبا عامر، ويزيد الرقاشي، وسليمان بن موسى، كلهم يأمروني بالجماعة وينهوني عن أصحاب الأهواء).
الواجب على كل مسلم الالتزام بمنهج سلف هذه الأمة من السمع والطاعة ولزوم الجماعة، وأن يسعه ما وسعهم، فإن الخير كل الخير في اتباعهم، وبذلك يحصل الفوز المبين والفلاح العظيم.
هذا.. وأسأل الله العلي أن يوفقنا وجميع المسلمين للعمل بكتابه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم-، وأن يرزقنا الفقه في الدين، والسير على منهج خير المرسلين وأصحابه المرضيين، وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين.
كما أسأله أن يوفق ولاة أمرنا لكل خير، وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - حفظه الله- وسمو ولي عهده الأمين الأمير سلطان بن عبدالعزيز آل سعود - وفقه الله لكل خير- وأن ينصر بهم الحق، وأن يجزيهم خير الجزاء على ما يبذلون من جهود كبيرة في خدمة الإسلام والمسلمين، وأن يوفقهم وجميع ولاة أمور المسلمين لما فيه صلاح العباد والبلاد، وأن يجعلهم هداة مهتدين،.
* عضو هيئة كبار العلماء وعضو اللجنة الدائمة للبحوث والفتوى