في الداخل مثلما في الخارج يبدو الانقسام تجاه الانقلاب العسكري في موريتانيا على الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله هو سيد الموقف.. انقسام في الشارع وفي البرلمان وعلى صعيد الأحزاب، وانقسام في المواقف العربية والدولية أيضاً. فكيف سيؤثر هذا الانقسام على أداء المجلس العسكري الحاكم في نواكشوط؟ وهل سيسرع في عودة الديمقراطية، أم في زيادة هيمنة الجيش على الحياة السياسية الموريتانية؟.
داخل منقسم وخارج متحول
على الصعيد الداخلي انقسم الرأي العام الموريتاني بين معارض ومؤيد. وخرجت مظاهرات بالآلاف تضم معارضين للانقلاب، وأخرى مؤيدة له. الأحزاب السياسية وأعضاء البرلمان ومجلس الشيوخ وحتى رؤساء البلديات انقسمت مواقفهم تجاه الانقلاب.. ففي حين رفض رئيس البرلمان الموريتاني مسعود ولد بلخير ومعه نحو ثلث الأعضاء الانقلاب، ذهبت أغلبية البرلمانيين وأغلبية أعضاء مجلس الشيوخ إلى تأييده، وحتى رؤساء البلديات انخرطوا في معركة تأييد الانقلاب والاعتراض عليه، مع جنوح واضح لأغلبيتهم نحو تأييد حكام الأمر الواقع، سادة نواكشوط الجدد.
خارجياً بدت المواقف الدولية ملتبسة ويلفها الكثير من التشويش والغموض وقابلة للتحول. كثير منها أعلن رفضه للانقلاب، لكن لا يستبعد أن يقبل بالأمر الواقع مع مرور الأيام، وبعضها بدا متفهماً لما حصل من تغيير. الاتحاد الإفريقي أعلن موقفاً قاطعاً وقوياً ضد الانقلاب، انسجاماً مع مواقف سابقة للاتحاد رفضت حصول تغييرات سياسية في الدول الأعضاء بشكل غير دستوري. وكان موقف نيجيريا أكثر مواقف الدول الإفريقية قوة ووضوحاً في رفض الانقلاب، وأعلن الرئيس عمر أبو بكر بأن نيجيريا لن تعترف مطلقاً بالانقلابيين لا الآن ولا حتى في المستقبل.
أما عربياً فإن موقف الجامعة العربية بدا متفهماً بطريقة أو أخرى لما جرى في موريتانيا. إذ أعلن مبعوث الجامعة العربية إلى نواكشوط أحمد بن حلي أنه (يعود إلى الموريتانيين وحدهم إيجاد الحل السياسي للأزمة التي تشهدها بلادهم)، مشدداً على وجوب أن (يعملوا بالتفاهم في ما بينهم). في المقابل كان الموقف الجزائري هو أقوى المواقف العربية المعارضة للانقلاب، إذ رفض الرئيس عبد العزيز بوتفليقة استقبال مبعوث الانقلابيين إليه لشرح وجهة نظرهم.
على النقيض من ذلك كان الموقف المغربي متفهماً لما حصل في موريتانيا، إذ أرسل العاهل المغربي مبعوثاً خاصاً للقاء الجنرال ولد عبد العزيز، فيما تهجمت صحيفة قريبة من القصر الملكي على الرئيس الموريتاني المنقلب عليه، واصفة إياه بالفاسد المفسد. وقريباً من الركب المغربي سارت بعض الحكومات العربية، التي كانت الديمقراطية الموريتانية الواعدة تقض مضجعها، وتنغص عليها، ومال موقف باقي الدول إلى الصمت، الذي ينظر إليه في نواكشوط باعتباره أقرب إلى التأييد منه إلى المعارضة.*
موقف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة اختار رفض الانقلاب. الأمين العام للأمم المتحدة أعلن عن (أسفه العميق) للانقلاب، في حين هدد الاتحاد الأوروبي بوقف المساعدات غير الإنسانية الموجهة لموريتانيا. وقالت فرنسا، التي تترأس الاتحاد إن نواكشوط تهدد نفسها بالعزلة الدولية. وأعرب سفراء فرنسا وألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة وموفد المفوضية الأوروبية وممثل برنامج الأمم المتحدة للتنمية في نواكشوط، الذين التقوا مجتمعين بالجنرال ولد عبد العزيز، عن إدانتهم الشديدة للانقلاب العسكري، ووصفوا إقالة الرئيس المنتخب ديمقراطيا بأنه إجراء غير مقبول، وطالبوا بالإفراج عن الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله، وإعادة العمل بالنظام الدستوري).
من استعراض المواقف الداخلية والخارجية، يتبين أن قوى الداخل هي أقرب إلى التسليم بالانقلاب كأمر واقع، فأكثرية نواب البرلمان متفهمون له، وكذلك أكبر الأحزاب السياسية. أما خارجيا فإن الموقف راهنا يميل إلى رفض الانقلاب، والضغط لتسريع إعادة الحياة الديمقراطية الدستورية.. لكن هذا الموقف ليس مضمونا أن يستمر على حاله لفترة طويلة، كما يرى النائب الموريتاني المؤيد للانقلاب سيدي محمد ولد محمد.
كيف تعامل المجلس العسكري مع الوضع؟
يعوّل الانقلابيون على الوقت لتوسيع جبهة المرحبين، وتضييق جبهة المعارضين. وقد نجح الانقلابيون في ضبط الوضع الداخلي أمنياً، حتى الآن على الأقل، وتوسيع دائرة الأحزاب المتعاونة معهم، كل لغايته وهدفه، وتضييق دائرة القوى المناهضة لهم. وإذا علمنا أن موقف الاتحاد الأوروبي من أقوى المواقف الرافضة للانقلاب، يفهم تعيين المجلس العسكري الحاكم في نواكشوط سفيراً سابقاً في العاصمة الأوروبية بروكسيل هو مولاي ولد محمد الأغظف رئيساً للحكومة. ولعل المقصود أن يوظف السفير السابق خبرته وعلاقاته بالأوروبيين لتطبيع واقع الانقلاب دولياً، بدءاً من أوروبا الأكثر تأثيراً في المشهد الموريتاني الداخلي.
إجراء آخر اتخذه المجلس الأعلى للدولة لضمان التفهم الأوروبي، إذ أصدر (أمراً دستورياً) يحدد سلطاته. ونص هذا الأمر على أن (القوات المسلحة وقوات الأمن تتعهد أمام الشعب الموريتاني بالقيام، خلال أقصر فترة ممكنة، بتنظيم انتخابات حرة وشفافة، تمكن مستقبلاً من سير مستمر ومتناسق للسلطات الدستورية).. ويبدو هذا النص موجهاً لتطمين الداخل والخارج معاً إلى النوايا الحسنة للانقلابيين.
وعلى الرغم من أن المجلس لم يحدد فترة ولايته، مكتفياً بالقول إنه سيجعلها (أقصر فترة ممكنة)، وهي رغم الإيحاء الدلالي بقصرها، تظل فترة مفتوحة يمكن أن تطول إلى سنوات، كما يمكن أن تختصر إلى أشهر، إلا أن الواضح أن التأكيد على أن تلك الفترة ستكون قصيرة جداً يكشف عن أن القادة العسكريين يجدون أنفسهم محرجين جداً، وغير واثقين من اتجاه تطور الأحداث، وسيتأكد هذا الحرج إذا ما استمرت الضغوط الداخلية والخارجية..
فكلما تواصلت ضغوط الداخل والخارج وتعاظمت، وكلما تماسكت قوى المعارضة، كانت الفترة الانتقالية أقصر، وكانت العودة إلى الديمقراطية أصدق، ووطأة الجيش على الحكم المدني اللاحق له أخف. أما إذا تهاوى الرفض الخارجي مع الأيام، ووجد معارضو الداخل أنفسهم في عزلة، فإن وطأة الحذاء العسكري على الحياة السياسية الموريتانية سيكون ثقيلاً.. بل ثقيلاً جداً.
كاتب صحفي من تونس