قابلت زميلي سامي وهو في طريقه لمناقشة أطروحة الدكتوراه ومن ثم حزم أمتعته والعودة إلى أرض الوطن مسلحاً بكم معرفي يفاخر به الأمم. وقد عرفت فيه الذكاء، والتوقد اللذين قاداه في نهاية المطاف إلى أن يُسجّل إضافات علمية ملموسة في مجال تخصصه الجيولوجيا وهو لا يزال طالب دكتوراه.
وهذا التميز العلمي كان سبباً في أن تنهال عليه عروض مغرية من قبل العديد من الجامعات، والشركات الأمريكية.
وقد عملت جاهداً على الالتقاء به في تلك الفترة تحديداً لأعرف منه ما ينوي فعله، وهل لديه توجه لقبول بعض من تلك العروض المغرية التي تقدمت بها بعض الجامعات، والشركات الأمريكية. وكان جوابه حاسماً حين قال: (لقد حان الوقت للعودة لأرض الوطن لأنني في غاية الحماسة والتطلع لأخدم بلدي).. وتابع يقول: (ولا أخفيك سراً أنني أتمنى اللحظة التي تطأ فيها قدماي موطني من أجل أن أنقل الكم المعرفي والخبرة التي اكتسبتهما من جراء دراستي هنا في أمريكا لأشارك مع العديد من ذوي العقول النيرة في مملكتنا الحبيبة في إحداث نقلة نوعية في المجال الجيولوجي). وقد شعرت حينها بالفخر والإعجاب لا لشيء إلا لتضحيته بفرصة ذهبية، وربما حلم مهني لأجل مزيد من الرفعة والشموخ لوطن تليد. وقد ودعته بعد أن دعوت له من القلب بأن يكون التوفيق والنجاح حليفاه، وأن يكون عالماً متميزاً في حقله داخل مملكتنا الحبيبة وأن يمتد ذلك النجاح ليلقي بضلاله أيضاً على العالم أجمع.
ومرت السنون تباعاً وإذا بي أقابل صاحبنا سامي على أرض المملكة وبمحض الصدفة في مقهى (ستار باكس) المملوك - كما هو معلوم - لشركة أمريكية. ولكن تلك المقابلة أبانت لي عن سامي آخر غير الذي كنت أعرفه الذي يتوقد عنفواناً، وهمّةً، وحماسة، ورغبة جامحة في البحث، والتنقيب والدراسة، إذ وجدته وقد بلغ منه الإحباط مبلغه، وقد ملكتني الدهشة عندما سمعته يقول إنه في طريقه إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وكان تعليقه على ذلك القرار مقتضباً إذ لم يفض ولم يسترسل في شرح موقفه، ولم يزد على قوله: (إن البيئة العلمية والمهنية هنا غير صحية ومصطبغة بمناح شتى سلبية تحدُ كثيراً من محاولة الإنسان الجادة لتطوير ذاته في حقله العلمي).
وحالة سامي هذه تنبئ عن ظاهرة واسعة امتدت لسنوات طوال أدت إلى أن يخسر العالم العربي على وجه الخصوص، والعالم الإسلامي بشكل عام عدداً لا يستهان به من علمائه، ومفكريه الذين تحول الظروف في بلدانهم عقبة في اعتلائهم منصات عُلا في حقولهم العلمية، وتحد كثيراً من تحقيقهم قفزات لتطوير ذواتهم، وإمكاناتهم العلمية المرموقة. ومن هنا نجدهم مضطرين في نهاية المطاف - مثل سامي - للبحث عن بيئات تمنحهم فرصاً تمكنهم من متابعة تميزهم العلمي والمهني في مجالاتهم التي هم فائقون فيها.
وظاهرة نزيف العقول النيّرة تجعلنا نخسر الكثير من عقولنا المستنيرة الذين يرفضون العودة إلى مواطنهم الأصلية ويقررون البقاء في مقار الدراسة، أو الهجرة إلى الخارج، وتحديداً الدول الغربية التي توفر لهم بيئة علمية ومهنية، وتمنحهم فرص تفوق بمراحل تلك التي تمنحها لهم بلدانهم. وقد أظهرت الدراسات الميدانية أن 45% من الطلاب العرب الذين يدرسون في الجامعات خارج الوطن العربي لا يعودون إلى بلدانهم بعد تخرجهم من تلك الجامعات ومن هنا نجد أن الدول الأجنبية تلك هي المستفيد الأول من قدراتهم وإمكانياتهم العلمية، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي تحظى بنصيب الأسد من العقول العربية المهاجرة بنسبة 39%، ثم تأتي المملكة المتحدة في المرتبة الثانية بنسبة تصل إلى 15%، ثم تليها كندا 13%، ثم إسبانيا بنسبة 1.5%، هذا فضلاً عن بعض الدول الأوروبية الأخرى.
وعلاوة على ذلك نجد أن ما لا يقل عن 30% من الخبرات العلمية المهاجرة على مستوى العالم مصدره العالم العربي الأمر الذي جعل العالم العربي يخسر قرابة مائتي مليار دولار. وفي هذا السياق تشير إحصاءات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية إلى أن 50% من أولئك المهاجرين هم من الأطباء و23% من المهندسين. وأشارت بعض التقارير إلى أن عدداً كبيراً من طلاب الدراسات العليا وحملة الدكتوراه في التخصصات التقنية قاموا بالهجرة من بلدانهم إلى الدول الغربية. كما يشكل الأطباء العرب في بريطانيا حوالي 34% من مجموع الأطباء العاملين فيها. وهناك العديد ممن يعملون في أهم التخصصات بما في ذلك الجراحات الدقيقة، والطب النووي، والعلاج بالإشعاع، والهندسة الإلكترونية، والميكرو إلكترونية، والهندسة النووية، وعلوم الليزر، وتكنولوجيا الأنسجة، والفيزياء النووية، وعلوم الفضاء، والميكروبيولوجيا، والهندسة الوراثية، بل وحتى العلوم الإنسانية كاقتصاديات السوق، والعلاقات الدولية، والآداب، والفنون، وغيرها من المجالات العلمية والثقافية. ويدعم ذلك ما أشارت إليه بعض الدراسات الحديثة من أن نسبة مشاركة العقول العربية في التقدم العلمي والتربوي والتقني في الدول المتقدمة وصلت نسبته إلى 2% من مجموع المتميزين فيها.
وفي محاولة لتقصي أسباب شيوع هذه الظاهرة المخيفة يجد المرء أن ذلك يعود إلى نوعين من الأسباب؛ سبب عام يتمثل في عدم الاحترام والتقدير والإجلال التي يبديها المجتمع تجاه العلماء وإنجازاتهم العلمية، بل إنه يمكن القول - مع بالغ الأسف - إننا في العالم العربي لا يأتي التعليم ضمن أولوياتنا. ومرد ذلك يعود أيضاً إلى عدم وجود بيئة مهنية مناسبة، وكذلك عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي في العديد من البلدان العربية.
وإلى جانب هذه الأسباب العامة هناك أسباب أكثر تحديداً ومباشرة ذات مساس بجوانب اقتصادية، وسياسية، واجتماعية، ومهنية. يرى ذو العقول النيرة أن بيئة العمل في بلدانهم غير مستقرة؛ نظراً لقدم الأنظمة واللوائح وجمودها، ولقلة المصادر، ومحدودية الإمكانات المادية من معامل ومختبرات، وتمويل، وفرق عمل بحثي متكاملة، والعوائق والتعقيدات التي تضعها المؤسسات التعليمية والحكومية، ومراكز البحوث، والبيروقراطية، وعدم وجود قيادة لديها الرغبة الأكيدة للتغلب على تلك المصاعب والعقبات. ومن هنا فهم يرون أنفسهم يعملون في ظل بيئة يصعب فيها تقديم إضافات واختراعات علمية وصناعية تجعلهم في مصاف أولئك المبرّزين في حقولهم.
ولا يتوقف الأمر على جملة الأسباب المذكورة آنفاً إذ نجد أيضاً أسباباً أخرى تتمثل في عدم وجود بيئة بحثية علمية نشطة، وعدم وجود مرجعية عملية محفزة للإبداع العلمي، وفقر في الإمكانيات التمويلية والتقنية للعملية البحثية، وعدم وجود التعاون والتنسيق بين مراكز البحوث والدراسات العلمية، وكذلك حاضنات منتظمة للمخترعات العلمية. ومما زاد الأمر سوءا ًضحالة العوائد المالية والفرص الممنوحة للمفكرين والعلماء في مقابل ما تقدمه المراكز العلمية في الدول الغربية من مزايا وإمكانيات تغري عقولنا المتميزة لشد الرحال إليها بحكم أنها بيئات جاذبة لعقول ولدت على أرض هيأت لعوامل ساهمت في طرد كفاءتها إلى أرض أكثر خصوبة.
وهذه الصورة التي تبدو قاتمة لا تعني بحال أن الوضع خرج عن السيطرة، أو أن مسار تياره لا يمكن إحداث تغيير فيه. بإمكاننا القيام بخطوات عملية جادة لاحتواء نزيف عقولنا النيرة، وإغراء قدراتنا العلمية للبقاء داخل حدود أوطاننا وذلك من خلال العمل بموجب خطة استراتيجية قصيرة وأخرى طويلة الأجل.
ومن أجل أن نضمن نجاحنا في مسعانا نحن بحاجة إلى القيام بعدد من الخطوات التي منها بناء المصانع ذات العلاقة، وإنشاء البيوت المالية الداعمة، والمؤسسات التعليمية، وسن التشريعات والنظم واللوائح. ويأتي على رأس ذلك كله الصرف بسخاء على البحوث والدراسات العلمية. ويمكننا كذلك الحد من ظاهرة نزيف العقول من خلال بناء مراكز بحوث محلية وإقليمية يمكن أن تسهم في احتواء العلماء والمفكرين، وكذلك عن طريق عمل قاعدة بيانات بأسمائهم، وتقديم منح لهم، وعقد مؤتمرات علمية كي يتمكنوا من استعراض ما توصلوا إليه في دراساتهم وبحوثهم العلمية من نتائج. ومراكز الأبحاث المقترحة يمكن أن تسهم في إيجاد قنوات للتواصل بين العلماء والباحثين والأطباء والتقنيين، والمهنيين، والأكاديميين مما يمنحهم فرصاً أكبر للتحاور، وتبادل الأفكار، واستشارة بعضهم البعض الآخر عن مشروعات ودراسات يزمعون القيام بها.
وأود أن أتوقف هنا لأؤوكد على حقيقة أن ظاهرة نزيف العقول النيرة في العالم العربي في السنوات الأخيرة وصلت إلى مستوى مخيف بوصولها إلى رقم تجاوز الـ450 ألف عقلية عربية مفكرة تبث إبداعها وتألقها العلمي في بلد المهجر مما جعلها في مقدمات أكبر التحديات التي تواجه العالم العربي اليوم والتي زاد من تفاقمها أن نظام العولمة الذي نعيش لحظاته اليوم عمّق تحالف المؤسسات العابرة للجنسيات، وزيادة الطلب على الخبرات والكفاءات العلمية. كيف لا، وهي تمثل أكبر تهديد للتطور العلمي، والتقني، والاقتصادي، والتربوي، والصحي، والتركيب الهيكلي للقوى البشرية في عالمنا العربي الكبير. كما أن هجرة ذوي الاختصاصات العالية تؤثر سلباً على عملية تراكم الخبرات التي تبعث الحراك في مجتمعاتنا العربية كافة، وتسهم في إضعاف قوى التنمية في تلك المجتمعات. كما أنها تعمل على تعميق الفاقد في الاستثمار في التعليم. ولذا فنحن بحاجة ماسة وعاجلة إلى التحرك الفوري من أجل جذب، وتهيأة الأسباب كافة أمام عقولنا، وكوادرنا المبدعة لتمنحنا جُلّ إمكانياتها، وقدراتها للدفع قدماً بعجلة التنمية لدينا بمساراتها العلمية، والصناعية، والاقتصادية، والاجتماعية.
alseghayer@yahoo.com