سنتحدث عن بعض من قصص المشرق لنريح القارئ من الحديث عن الأندلس الذي ربما ملّ من حديثنا عنه، فنزيده غبا لعله يزداد حبا، فقد أورد أبو فرج الاصفهاني في كتاب صغير له سماه (الإماء الشواعر)، حديثا موجزا عن الشاعرة اليمامية، جارية المتوكل واسمها (فضل) ولدت في اليمامة ونشأت وترعرعت في البصرة، وقد ذكر بعضهم أنها عبدية وكذلك كانت تزعم وتقول عن نفسها: إن أمها علقت بها من مولى لها من عبد القيس، وأنها ماتت وهي حامل بها أي أنها في الأصل حرة، غير أن أحد أبناء المتوفى ويمسى علي قد باعها على سبيل الرق، وهناك من يقول إن أباها قد رباها ولمّا توفي تواطأ الأبناء على بيعها فبيعت حتى انتهت إلى يد محمد بن فرج الرخجي الذي باعها بدوره إلى المتوكل. وكانت سمراء حسنة الوجه والقد والجسم، حلوة، أديبة، سريعة البديهة، مطبوعة في قول الشعر. وكانت تجلس في مجلس الخليفة المتوكل على كرسي وتقارض الشعراء الشعر بحضرته، فألقى عليها يوماً أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي بيتين من الشعر فقال: |
قالوا عشقت صغيرة فأجبتهم |
أشهى المطي إليّ ما لم يركب |
كم بين حبة لؤلؤ مثقوبة |
لبست وحبة لؤلؤ لم تثقب |
فقالت فضل اليمامة مجيبة له: |
إن المطية لا يلذ ركوبها |
ما لم تُذلل بالزمام تُركب |
والدرُّ ليس بنافع أربابه |
حتى يؤلف للنظام بمثقب |
وقيل إنها لما دخلت على الخليفة المتوكل يوم أهديت إليه، قال لها: أشاعرة أنتِ؟ فقالت: هكذا يزعم من باعني واشتراني، فضحك وقال: انشدي لنا من شعرك فقالت فيه قصيدة منها: |
إنا لنرجو يا إمام الهدى |
أن تملك الملك ثمانينا |
لا قدّس الله امرءاً لم يقل |
عند دعائي لك آمينا |
وذكرت فضل أنها كانت ذات يوم تسمع مع أمير المؤمنين المتوكل في خلوة فنام، فحاولت إيقاظه فلم يفق من نومه فكتبت أبياتاً من الشعر وجعلتها في كمِّه ومنها: |
قد بدا شبهُك يا مو |
لاي يحدو بالظلام |
قم بنا نقض لبنا |
ت التنام والتزام |
قبل أن تفضحنا عو |
دة أرواح النيام |
فلما أفاق الخليفة المتوكل من نومه وصحا مما كان قد شربه ضحك من شعرها، وأهداها ألف دينار، وقال لها: تكون الليلة عوضاً عن البارحة. وقال الدقاق صرت أنا وأبو منصور الباخرزي إلى فضل الشاعرة، فحُجبنا. وما علِمت بنا ثم بلغها خبرنا بعد انصرافنا فغمّها ذلك وكرهته، فكتبت إلينا تعتذر، فقالت: |
وما كنت أخشى أن تروا لي زلة |
ولكنَّ أمر الله ما عنه مهرب |
أعوذ بحسن الصفح منك وقبلنا |
بصفح وعفو ما تعود مذنب |
فقال لها أبو منصور: |
لئن أهديت عتباك لي ولإخوتي |
فمثلك يا فضل الفضائل يعتبُ |
إذا اعتذر الجاني محا العذر ذنبه |
وكلُ امري لا يقبل العذر مذنب |
وكان المتوكل قد عزم على أن يقضي فصل الشتاء على أحد فروع نهر دجلة يقال له القاطول، ولم تكن تريد ذلك، فقالت شعراً أعطته عريب المغنية، فغنته بين يدي المتوكل، ومن ذلك الشعر: |
قالوا لنا إن بالقاطول مشتانا |
ونحن نأمل صنع الله مولانا |
والناس يأتمرون الغيب بينهم |
والله في كل يوم محدث شانا |
رب يرى فوق ملك العالمين له |
مُلكا وفوق ذوي السلطان سلطانا |
فلما سمعها المتوكل تغني بهذه الأبيات قال: إذا كرهتم هذا كرهناه. |
وجاء غلام للحسن بن مخلد برقعة ودفعها إليه، فإذا بها شعراً للشويعرة فضل وفيها: |
نفسي فداؤكَ طال العهد واتصلت |
منك المواعيد والليان والخُلفُ |
والله يعلم أنّي فيك ساهرة |
ودمع عيني منها بارقٌ يلفُ |
فإن تكن خنُت عهدي فوا أسفا |
وقلّ مني فيك الهمّ والأسفُ |
وإن تبدلت مني غادرا خلفا |
فليس منك ورب العرش لي خلفُ |
فضحك الحسن بن مخلد وقال: لقد ملحت وطرفت، فأمر أحد جلسائه فأجابها: |
يا واصف الشوق عندي فوق ما تجدُ دمعٌ يفيض وقلبٌ خافق يجفُ |
فكن على ثقة مني وبينة إني على ثقة من كل ما تصفُ |
وكان الحسن بن مخلد جالساً ذات يوم مع بعض أصحابه فجاءته رقعة من فضل الشويعرة، وقد مرضت مرضا شديدا وإذا بالرقعة: |
الصبر ينقص والسقام يزيد والدّار دانية وأنت بعيدُ |
أشكوك أم أشكو إليك فإنه لا يستطيع سواهما المجهودُ |
فلما قرأها أخذ بيد أحد جلسائه ومضيا إليها فلما رأته قالت: هو ذا أموت وتستريح مني، فأنشأ يقول: |
لا متّ قبلك بل أحيا وأنتِ معا ولا أعيش إلى يوم تموتينا |
حتى نعيش كما نهوى ونأمله ويرغم الله فينا أنف شانينا |
حتى إذا قضى الرحمن ميتتنا وحلّ من أمرنا ما ليس يعدونا |
متنا جميعا كغصني بانة ذبلا من بعد ما نضرا واستوسقا حينا |
ثم السلام علينا في مضجعنا حتى يعود إلي تدبير منشينا |
مات الجميع وبقيت آثارهم ولاقوا عند ربهم نتاج عملهم، رحمهم الله وغفر زلاتهم. |
|