كتب معالي الدكتور عبدالعزيز الخويطر، نافذة ثقافية، على خزائن متفرقة، فهو منذ عام 1390هـ يمد المكتبة بمعارف متعددة، ولا يزال قلمه سيالاً وقد نصحني يوماً بقوله: ما دام القلم يجري فلا تغمده، فهو كالسيف، إذا طوّل في غمده صَدِءْ.. وهي نصيحة مخلصة.
وهو أمدّ الله في عمره، ومتعه بالنشاط والعافية، مستمر لوقته، ومهيئ نفسه لذلك، من أيام الطلب في مراحل التعليم المختلفة، بما يدوّن في مذاكراته
.، وكأن الشاعر عناه، أو استمد المنهج الثقافي منه في رصد الأمور
في وقتها طرية:
وذلك في قوله:
العلم صيد والكتاب قيده
قيّد صيودك بالحبال الموثقة
وكتبه التي رأت النور المتعددة بعناوينها، والمتكاثرة بأجزائها، وتعدد طباعتها، حافلة بكل جديد، وفيها دروس وتجارب ليست خاصة له، ولكنها تثري من يقرؤها، لأن الحياة تجارب، وقديماً يستفيد اللاحق من أعمال السابق، لأن له في هذه السوابق، فوائد عديدة، واختصارات تحجب عن الزلل: سواء في كتبه التي خرجت أو مقالاته.
وبين أيدينا الجزء العاشر من الذكريات، التي سمّاها: وسم على أديم الزمن، الذي صدر في طبعته الأولى عام 1429هـ - 2008م وهو في الحجم والشكل المعتاد في هذه السلسلة، إلا أن هذا الجزء له سمات انفرد بها، عن السابقات، منها أن في الجانب الأيسر، من طرة الكتاب أربع لقطات تراثية، من البيئة المحلية، تتناسب مع الذكريات، مما يزيل السأم عن رتابة القراءة بنادرة أو طرفة، كالملح الذي يتذوقه الآكل: شهية ولذة لوجبته.
كما ركز في هذا الجزء على الأحداث التي شحذت أفكار الطلاب في الجامعة، وغيرت كثيراً من المفاهيم بالصراعات الفكرية التي صاحبت العدوان الثلاثي على مصر، حيث كانت الراحة بين المحاضرات، ميداناً للصراع والمصادمات بين الطلاب، ويتفاعل معهم كثيرون من غير الطلبة العرب، في حماسة وحجاج وعواطف، لا تجاوز حيطان القاعة (ص 136-145).
وقد ربط أحداث العدوان، وما فيها بما جاء في مناظرة بين فريقين من المؤرخين الفحول: هجوم ودفاع في يوم الخميس 21 فبراير، وعلى رأس المهاجمين البروفيسور لويس، الذي يحب سماع الطرائف وروايتها، وأورد نماذج منها (ص 157-162).
واستعرض كثيراً؛ ما مرّ به صحياً، وعندما سقط في الحمام وأغمي عليه، وفي شارع الدكاتره كان طبيبه الذي يعالجه والذي يصفه لمن جاء لندن لطلب العلاج هو الدكتور (سذرد) الذي وصفه بالمتميز، في حسن تعامله وتلطفه مع المريض (163-167).
ومثلما كان لمعاليه، مواقف طريفة، في الجزء التاسع، فإن له في هذا مواقف، من ذكريات الشباب والعزوبية، في الطبخ، مع زملائه وأستاذه في فنون الطبخ، الدكتور عبدالخالق قاضي، بعدما سكن في شقة أنيقة، وفي موقعه رضي عنه كل الرضا، لما فيها من مميزات، ومن إعجابه بها كرر ذلك في عدة مواقع من هذا الكتاب انظر مثلاً (120-132).
ومع ذلك لم ينس المعاناة، من مراجعة سفارة باكستان، التي كانت ترعى المصالح بعد قطع المملكة علاقاتها مع بريطانيا، احتجاجاً على العدوان الثلاثي، حيث فقد الطلبة، دفء المعاملة الأخوية في سفارتنا، والرعاية الأبوية من السفير، حيث كانوا يدخلون بلا استئذان إلى أقصى مكتب، لأن عدد السعوديين قليل، وصلتهم قوية والكلفة مرفوعة إلى آخر ما ذكر من جانب الود والألفة.
لكن مع السفارة الباكستانية الصلة كانت رسمية بحتة، ولم يكن أكبر همهم الطلبة السعوديين، ومراجعوها من أبناء شعبهم يومياً كثيرون، فكانت المكافآت تتأخر، ويضطر إلى السلفة من هنا وهناك (134-138).
والدكتور: تدل ذكرياته التي دونها، وأخرجها في كتبه على أنه رجل اجتماعي يحب العلاقات وتطويرها والثبات عليها، مع ديمومة الصلة، لأنه يألف ويؤلف، ولعله ارتبط بهذه الخصلة من مقولة رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يألَفُ ويُؤلف).. فقد رصدت الصور التي أوردها، وعددها (21) صورة، مجموعة من الأصدقاء من كل مكان: وزيادة عن السعوديين، هناك عرب وعجم، وأطباء توطدت معهم الرابطة ويكرمهم ويكرمونه، حتى أنه يؤثر شيخاً وقوراً هو الشيخ: محمد طاهر الدباغ، ومن احترامه له لا يسميه إلا الوالد الحنون، الذي جاء لندن لعلاج عينيه، فيبحث عما يريحه، حتى أنه يسكنه شقته إكراماً، ليذهب هو للفندق لمكانته عنده، عبر عن هذا الكرم وحسن الضيافة الشيخ محمد طاهر الدباغ رحمه الله بواحدة من الرسائل المؤرخة في 14-1-1377هـ (ص 247) (ص56-58).
وللإنجليز جانب علمي واهتمام بالأنساب والأصالة، بل من العائلة المالكة امرأة اعتنقت الإسلام، وتسمت بعائشة كانت في عام 1345هـ في جدة وأسلمت على يد الشيخ محمد البيز رحمه الله، وذكر موقفاً طريفاً، عندما كان مع زميله الذين يقدره الأسترالي الجنسية من أصل باكستاني، إذ دخلت على سيدتين وهما في القاعة الشرقية بمكتبة المتحف البريطاني للاطلاع على وثيقة النّسب، التي جاء بها المسؤول في المكتبة، في صندوق صغير، مع وثيقة إسلام عائشة، وأخرى، توصّل الملكة اليزابيث، إلى إحدى بنات موسى بن نصير، فأخذت رقم الوثيقة، وأعيدت لمكانها، واحتفظت بالرقم في إحدى المفكرات.. ومن باب التوثيق أثبت الرقم، في هذه الذكريات (ينظر بالتفصيل ص16-23).
إن رابطة الدراسة، وما فيها من ذكريات جميلة، هي من أحلى ما اهتم به الدكتور، في رصده الذكريات، ومن ثم تدوينها حيث التزاور والأحاديث الممتعة، وخصوصاً عندما يأتي ما يثير كوامن النفوس، كحادثة الغزو الثلاثي على مصر، وآراء عبدالناصر بعد تأمين قناة السويس، حيث التقت أفكار الغرب مع المتعاطفين مع قضيتهم من بعض الأفارقة والغربيين، حيث تنتهي الحماسات، بتناول الغداء أو العشاء في أحد المطاعم الهندية التي يختارها لهم زميلهم عبدالخالق قاضي، وهو صديق خاص للدكتور وأستاذ له في تعليم الطبخ.
أو في المساكن كل يجرب مهارته في الطبخ، ولا تخلو هذه التجارب من طرافة (ص 23-29).
ويحلي ذكرياته هذه، بموقف أخيه الدكتور حمد، مع صديقه الحميم القريب من قلبه وهو الدكتور سلطان زمزمي الذي كان دقيقاً في سيرته، المنظم في جميع شؤونه وبدقة، ومع ذلك كان مولعاً بالمخترعات الحديثة، الصغيرة، والدراسات الرومية المتصلة بالطب والعلاج، ومنها التنويم المغناطيسي، ويطبق تجاربه على د. حمد الخويطر، أخو الدكتور، في القاهرة في دار البعثة، لكنه لم يفلح، يقول: لا أدري إذا كان قصوراً في فهمه لهذا الفن، أو أن رأس رأس الأخ حمد قاسياً، لا تلينه كلمات الدكتور سلطان زمزمي، التي تأمره بالتكرار أن ينام، فكلما ظنّ أن حمد نام، فتح حمد عينيه، بأوسع طاقة لهما ممكنة، فتبعثر المجهود مع انعدام المردود (29-33).
والمكافأة كانت من المهمات عنده، لأن الطالب وفي بلاد الغربة، يحس بأهمية ذلك، وثم أن والده رحمه الله كان يرسل له، ولأخيه حمد بسخاء، لأن بنظرة هذا الأب، حول تعليم أولاده بعيدة الفوز، إلا أن طول المدة والأوضاع التي طرأت على قدرات الوالد المالية جعلت الدكتور يتابع الكتابة، إذ كتب في عام 1957م رسالة لصاحب السمو الملكي الأمير فهد وزير المعارف حينئذ، مستنجداً بسموه تجاه بعض الأمور المالية التي لم تُجْدِ اتصالاته مع الجهات الأخرى، خصوصاً وأنه لا سفارة للمملكة في تلك السّنة، وقد وضح الأمور والمعاناة في رسالته (257-265) فهذه الذكريات ممتعة ومفيدة، وما ذكرنا فهو نموذج، لذا تستحق القراءة لما وراءها من نفع متعة بظرافة.
غيرة نساء الرسول:
جاء في كتاب المستصفى في سيرة المصطفى: في حديث رواه البخاريّ عن عائشة رضي الله عنها: أن نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم، كُنّ حزبين، فحزب عائشة وحفصة، وصفيّة وسودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله، وكان المسلمون قد علموا حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة، فإذا كانت عند أحدهم هديّة يريد أن يهديها إلى رسول الله آخّرها، حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، بعث صاحب الهدية بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت عائشة، فكلّم حزب أم سلمة، فقُلْنَ لها:
كلّمي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلّم الناس، فيقول: من أراد أن يُهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هديّة، فليهده إليه، حيث كان من بيوت نسائه، فكلّمته أم سلمى بما قُلْنَ، فلم يقل لها شيئاً، فسألنها فقالت: ما قال شيئاً لي، فقُلْنَ لها فكلّميه.. قالت: فكلمته حين دار إليها أيضاً، فلم يقل لها شيئاً، فقُلْنَ لها: كلّميه حتى يكلّمك. فدار إليها فعلّمته، فقال لها: لا تؤذيني في عائشة، فإن الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأة إلاّ عائشة، قالت: أتوب إلى الله من أذاك.
ثم إنّهنّ دعون فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلتْ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تقول: إنّ نساءك ينشدنك الله العدل في بنت أبي بكر، فكلّمته، فقال: يا بُنيّة ألا تحبين ما أحبّ؟ قالت: بلى.
فرجعتْ إليهنّ فأخبرتهنّ، فقُلْنَ: اَرجعي إليه.. فأبَتْ أنْ ترجع.
فأرسلن زينب بنت جحش، فأتته فأغلظت وقالت: إنّ نساءك ينشدنك الله العدل في بنت ابن أبي قحافة، فرفعتْ صوتها، حتى تناولت عائشة، وهي قاعدة فسبّتها، حتى أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لينظر إلى عائشة، هل تكلّم. قال: فتكلّمتْ عائشة رضي الله عنها ترد على زينب حتى أسكتتها.
قالت: فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، وقال: إنّها بنت أبي بكر رضي الله عنه.
(773-774).