ترجل درويش أخيراً عن صهوة الشعر.. يبس قلمه وجف حبره، لكن معانيه تأبى أن تجف أو تذوي أو تغادر دنيا الناس والكلمات. خضع درويش الجسد أخيراً للموت بعد أن تحداه طويلاً.. لكن الموت لا يُتحدى.. فالموت نهاية كل حي وكل شيء.. مات درويش المُسوّى من طين، لكن درويش القيمة والثورة والمعنى حي لم يمت.
ليس الشاعر مجرد لحم وعظم وعصب يمكن للدود أن يفترسها في غفلة من الزمن.. الشاعر قيمة مضافة، ومعنى يخترق الحواجز والحجب.. الشاعر طيف أو قوة خيال جامح يقفز فوق المنطق البارد، وفوق موازين القوى.. فوق مسافات المكان وتطاول الزمان.
شعراء كثر ماتوا لكنهم ظلوا أكثر حضورا وتأثيرا وسطوة من الأحياء. مات المتنبي الجسد.. قيل إن شعره هو قاتله، لكن المتنبي الشاعر والقيمة حي لا يموت، سيظل حيا طالما ظل في الدنيا من يتذوق لغة الضاد، ويطرب لرقص الكلمات، ويعجب لقوة المعنى، وجمال الخيال حين يرتسم صورة أدبية أشهى من العسل.. وكما يعيش المتنبي بيننا، سيظل محمود درويش حيا متألقا متدفقا مثلما كانت كلماته منسابة متدفقة ساحرة مشتعلة في الأرواح كأنها النار.
في زمن الغطرسة والنكران ومحاولة إبادة شعب وقضية وتاريخ، زمجر درويش وكأنه الريح العاصفة: (سجل أنا عربي.. ورقم بطاقتي خمسون ألفا).. وفي المنفى والبعد غنى لأمه وحنينه لخبزها وقهوتها، فكأنما نطق بألسنة كل المهجرين وكل المحرومين وكل الغرباء..
وحين حُوصرت بيروت ونُفيت منها المقاومة الفلسطينية، وضرب اليأس عمق الروح فحطمها، أوجع درويش القلوب حين غنى:
(سقط القناع عن القناع عن القناع..
سقط القناع..
لا إخوة لك يا أخي..
لا أصدقاء يا صديقي.. لا قلاع..
لا الماء عندك.. لا الدواء ولا السماء
ولا الدماء.. ولا الشراء
ولا الأمام، ولا الوراء..
حاصر حصارك.. لا مفر..
سقطت ذراعك فالتقطها..
واضرب عدوك.. لا مفر).
بعد أوسلو سعى درويش لمعانقة الإنسانية في قيمتها العليا.. لم يغن بعد أوسلو للوطن المكلوم.. غنى للإنسان وللألم وللفرح والوجود.. وكما كان زمن الثورة والتمرد قامة سامقة تطاول في علوها شم الجبال، ظل كذلك في شعره بعد أوسلو.. خالفه من خالفه في موقفه السياسي، وعارضه الكثيرون في عودته لوطن لم يكد يبقى منه شيء سوى السراب، أو بقايا علبة كبريت، كما قال الشاعر العظيم نزار قباني: (لمناه جميعاً لعودته إلى وطن طمرته المستوطنات تحت صخب الإسمنت والحديد، ومزقته الحواجز والأسلاك الشائكة فأدمت روحه قبل أن تدمي جسده).
ولكن متى كان الشاعر موقفا سياسيا حتى يحاسب على موقف.. الشعر خيال وصور ورؤى، والشاعر خيّال يمتطي صهوة الكلمات، ويرسم حلما لا يعرف التحقق.. لكنه لا يعرف الموت أيضا ولا الفناء.. يظل كقمر توشك أن تقبض عليه في كفك، أو أن تلمسه أهداب عينيك لقربه منك، ثم يتحطم شظايا بين يديك.. ويستحيل هباء.
الغاوون وحدهم يجرون خلف ذلك القمر الهباء، ويظلون يجرون ويجرون حتى يصافحهم اليتم أو يرتطمون بالعدم.
كان درويش قمة شعرية وسيبقى حتى يشاء الله قمة لا تدرك ذراها.. وكذلك هم كبار الشعراء.. أحياء كانوا أم أمواتا.
بشرى نور الدين - أديبة مغربية