العدل أساس الحكم، ولازم من لوازم الإيمان، ودعامة الأمم الراقية التي حرص الإسلام على تأكيدها لأهميتها. وقد جاءت أوامر القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
.. الذي لم يخط حرفا ولم يقرأ كتابا - صريحة في أن يكون قضاؤه بالعدل المطلق، والنزاهة التامة فيما يفصل فيه من منازعات.
ويعتبر القضاء سلطة من سلطات الدولة الثلاث. بل إن منصب القضاء في الإسلام من أعلى المراتب، فلا يولى القضاء إلا من تحققت له أسبابه، وتوافرت له شروطه لأن القاضي نائب عن الله في حكمه وفتواه بنص القرآن (والله يقضي بالحق) فالقضاء وظيفة رسمية رفيعة المقام، تبعث في نفس القاضي الشعور بالمسؤولية، والإخلاص في العمل وتحري الدقة في الأحكام مما ينتج عنه تقدير الناس لجهده وعمله ولا شك.
هذه الصورة المشرقة يقابلها عند بعض القضاة - بحكم كونهم بشرا في نهاية المطاف مهما كانت لهم من صفات وخصال - صورة قاتمة عبوسة زاخرة بألوان شتى من الطباع المذمومة، كالتشفي والانتقام والانتصار للذات، والاستعلاء على الآخرين وازدرائهم، والنظرة إليهم نظرة دونية، سواء مع بعض المراجعين أو مع صغار موظفيهم. والخلفية المنطقية وراء هذه الممارسات هي العجب بالذات والفوقية التي يمارسها البعض.
من تلك الصور المزمنة في هذا المجال، ما حدث للمواطن عوض بن مرزوق المذاهبي، عندما طلب منه القاضي في المحكمة الجزئية بالطائف حلق شنبه، وأمهله نصف ساعة فقط لينتظره، فما كان من المواطن إلا معاتبة القاضي على طريقة نصحه وإجباره على الحلاقة بشكل محرج وأمام خصومه، فقام القاضي بطرده من قاعة المحكمة. حينئذ صعد المواطن قضيته أمام رئيس المحكمة ليعتذر له، وطلب منه العودة إلى القاضي، إلا أن القاضي أصر على موقفه، وقام بتأجيل الجلسة مؤكدا على كاتبه عدم إدخاله في الموعد المقبل ما لم يحلق شنبه. وهو ما حدث في موعد الجلسة الثالثة بناء على تعليمات القاضي، وحفظت القضية حتى حلق الشنب. هذا ما أوردته صحيفة الرياض قبل أيام، ولا أدري ما علاقة القضاء بسلوك الناس في الحقوق، ولا حتى بالشكل والزي والمظهر، فالذي أعرفه أن الجميع يأخذ حقه مهما كان مذهبه ودينه.
سأنقل لكم مشهدا شبيها بما سبق، أعرف شخصاً غضب عليه أحد القضاة بسبب إصراره على المطالبة بأرباح مساهمة ما، وبدلا من رفع اعتراضه إلى محكمة التمييز حسب النظام رفض تسليمه الصك بحجة أنه ضاع في المحكمة. فلما تقدم المساهم بلائحته رغم ذلك وطلب رفعها للتمييز أثناء المدة النظامية رفض القاضي ذلك. وبعد سنة كاملة أعطاه القاضي صورة الصك، فاكتشف المساهم أن القاضي كتب فيه: (أن المساهم لم يقدم لائحته أصلا، وأنه لذلك أسقط حقه في الاعتراض).
ما سبق من مشاهد - وغيرها كثير - يدل على أن القضاة مسؤولون، ولا يمكن استثنائهم من طائلة المحاسبة، وتتريهيهم عن الخطأ أو التقصير. كما لا يجوز تحصينهم ضد المساءلة عن أخطائهم إذا ما تحققت موجباته، بل لا بد ان يكون محلا للمساءلة الشديدة، من أجل المحافظة على هيبة وجلال الوظيفة القضائية، وبعدا بصاحبها عن كل ما قد يشينه أو يدنسه. وقد سرني كثيرا ما نشرته صحيفة عكاظ يوم السبت: 14-7- 1428هـ من أن مجلس القضاء الأعلى الجديد الذي سيتم الإعلان عنه سوف يتولى محاكمة القضاة المخالفين للأنظمة حول ما ينسب إليهم من تهم، وأن عقوبات المجلس ضد القضاة سوف تتنوع بين قرارات بالإعفاء، وتوجيه خطابات لوم بحسب درجة الخطأ. وهو ما أكده فضيلة الشيخ صالح اللحيدان - رئيس مجلس القضاء الأعلى - في حواره مع جريدة الرياض، بتاريخ 8-10-1428هـ. حينما سئل عن كيفية اختيار القضاة. وهل تتم محاسبة المقصر منهم؟. فأجاب الشيخ: (هذا لا شك، فالمقصر يحاسب على تقصيره).
إن جاز لي أن أختم بشيء، فهي الإشارة إلى أنني لا أكتب لأمدح بل لأصلح من خلال تجلية الحقيقة. فالتصحيح إنما يكون بالاعتراف بالأخطاء، وكشفها بالبيان. كما أن التصحيح والمراجعة المستمرة ضرورة ملحة لتطوير الأداء، مع التأكيد على أن مبدأ محاسبة المخطئ ومراعاة قصده والضرر المتعدي المترتب عليه ضرورة ملحة، خاصة إذا كان مبنياً على الإنصاف والتجرد والعدل.
drsasq@gmail.com