ذكر لي أنه كان ينتظر مع آخرين دوره لمعرفة ما تم بشأن موعده مع الطبيب الذي يود أن يأخذ موعدا معه لواحد من أفراد أسرته، بعد ذلك الانتظار وعد بأنه ربما يكون ذلك أثناء الأسبوع القادم. قابلته في المساء مصادفة في صالة الفندق وجرى الحديث معه كالمعتاد، وهذه المرة لاحظت عليه شيئا
من عدم الارتياح، وعندما سألته عن السبب، ذكر لي المعاناة التي يعايشها العديد من جراء شد الرحال إلى بلد غربي طلبا للعلاج. وكلانا يعرف السبب، لا يوجد خدمات طبية على مستوى متقدم في البلدان التي ننتمي إليها، لماذا؟ أسباب يطول شرحها.
قلت له: هل يمكن إضافة هذا الواقع، عدم التطور في الخدمات الصحية، إلى قائمة معايير التخلف؟ قال لي متحمسا: بكل تأكيد. قلت له ولكنك تمكنت من القدوم إلى هذا البلد البعيد، أليس هذا دليلا على القدرة المالية لك، ومن ثم المستوى الاقتصادي لبلدك؟، قال: لا تثير أشجاني، الجواب لا، ولكن الضرورة دعتني إلى ذلك، ولقد صرفت جميع ما وفرته لعدد من السنوات من أجل علاج أحد فلذات أكبادي.
ثم تابع القول: كم من الأموال التي تصرف على الخدمات الصحية في البلد، وكم من الأموال التي ينفقها المواطنون في المجال الصحي خارج بلادهم، وحتى لو توفر المال لا يوجد متخصصون على مستوى مطلوب، بل إن واحداً من المستشفيات نصح أحد المرضى بالذهاب إلى الخارج لعدم توافر جهاز حديث لتشخيص المرض الذي يعاني منه.
هناك الفئات الأكثر حظا التي تتمكن من المنح العلاجية في الخارج، وتعمل المكاتب الصحية التابعة لهذا البلد أو ذاك بمهمة حلقة الاتصال بين وزارت الصحة والمستشفيات في الخارج التي تقدم العلاج. ولأن المسألة مربحة جدا، فلقد كونت المستشفيات الأجنبية إدارات خاصة للعلاقات الدولية، تتولى جميع الترتيبات للمواعيد مع الأطباء وتحصيل المبالغ من المرضى بصفة مباشرة أو غير مباشرة، عن طريق مكاتبهم الصحية، التابعة لسفاراتهم أو المستقلة عنها.
قال لي: هذه الأموال التي تنفق في الخارج يمكن أن تبقى في البلد، قلت له: المال وحده لا يضمن تحقيق المطلوب، المسألة تتعلق بالاستعداد الاجتماعي والاقتصادي والتنظيمي للبلد. الجامعات تخرج أعدادا من الأطباء في كافة التخصصات، ولكن هذا لا يحقق التميز، ثم لا تنس التسرب للمؤهلين من القطاع العام إلى القطاع الخاص، يذهب المتميزون للقطاع الخاص لتحقيق مزايا مادية أكثر قد لا يجدونها في القطاع العام، أو يكونون مؤسسات خاصة بهم. قال لي: وحتى هذا لم ينتج المطلوب، فوافقته على ذلك. ثم سألته: إذن ما السبيل للخروج من هذه الدائرة المغلقة؟
وبدلا من المحاولة للتعامل مع تساؤلي، قال: (تعرف،؟) لقد لاحظت وأنا أنتظر في استقبال مكتب العلاقات الدولية في المستشفى أن المراجعين من بلدان فعلا تصنف ضمن البلدان النامية، وليس المشكلة هنا، بل إن بعض المراجعين من دول (نفطية)، أليس هذا يشكل تناقضا في حد ذاته؟ ألا يذكرك بالقول: (كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول)؟ قلت قد يكون الأمر كما قال.
هل التأمين الصحي هو الحل،؟ تكفل الدولة التأمين الصحي لكل مواطن ثم تكون الجهة المنوط بها الشأن الصحي في البلد مسؤولة عن التخطيط والإشراف والمتابعة على الخدمات الصحية من مستشفيات ومستوصفات وعيادات ومراكز أبحاث طبية، أليس هذا معمولا به في بعض البلدان المتطورة؟
قلت لصاحبي: لنوجه النداء للمسؤولين عن الخدمات الصحية في بلادنا ونقول لهم: هل لكم أن تنشروا تقارير عن التكاليف المالية التي تنفقها الحكومات لعلاج مواطنيها خارج حدودها، وهل هناك تقارير عما يصرفه المواطنون، من جيوبهم الخاصة، على العلاج داخل وخارج بلادهم؟ قد تفوتني وتفوتك بعض الحقائق والأرقام التي هي بالتأكيد ليست في حوزتنا، فلم لا نعرفها حتى يتمكن المسؤولون من التصدي لعلاج المشكلة، التي هي بلا شك موجودة، ولكننا نجهل حجمها، وما يترتب عليها من قضايا اجتماعية واقتصادية. من المعلوم أن علاج المشكلة يبدأ بمعرفة حجمها وملابساتها، ثم طرحها ومناقشتها ورسم الإستراتيجيات لحلها، أما السكوت على الوضع القائم، فليس في الصالح العام لا للمدى القريب ولا البعيد.