Al Jazirah NewsPaper Sunday  17/08/2008 G Issue 13107
الأحد 16 شعبان 1429   العدد  13107

قراءات جديدة لثوران بركان المدينة المنورة التاريخي
د.عبد الحفيظ محمد أمين *

 

هزات أرضية خفيفة شعر بها أهالي المدينة المنورة يوم الاثنين 1 جمادى الثاني عام 654 هجرية... الثلاثاء... اشتدّت الهزات بصورة مقلقة وسببت الذعر والهلع وشعر بها الخاصة والعامة من الناس... الأربعاء... حدث زلزال قوي ليلاً قدرّ شدته بين 2-6 درجات سببت الرعب واستمرت الهزات الزلزالية... الخميس.. تتابعت الهزات وتساقطت أسقف البيوت الطينية القديمة.. الجمعة.. ثمانية عشر زلزالاً متتالياً وصلت أقصى شدّة لها في منتصف النهار ثم هدأت.. وإذ بأهل المدينة النبوية يرون مشهداً لأول مرةّ في حياتهم لم يره أحد من العرب في شبه الجزيرة العربية قبلهم... نافورة من اللافا الحمراء البازلتية وهي ترتفع لأعالي السماء مصحوبة بأصوات رعدية عنيفة من على بعد 19 كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من المدينة المنورة في حرّة رهط.

تقدمت الطفوح البازلتية باتجاه المدينة المنورة وارتفعت سحب كثيفة جداً من الرماد البركاني المصحوب ببخار الماء إلى أعالي السماء وصلت إلى طبقات الستراتوسفير Stratosphere (أعلى من 10 كيلو متر من مستوى سطح البحر)..، وأظلمت الدنيا في وضح النهار... لقد سبب رؤية هذه المناظر الطبيعية لانفجار البركان الخوف والهلع الشديدين لأهالي المدينة المنورة وقتذاك.. فتحرّك الأعيان ووجهاء البلد لأميرهم منيف بن شيحة الوالي من قبل الخليفة العباسي المستعصم بالله واللذين طالبوه برّد المظالم إلى أهلها والتوبة إلى الله.

سيعيد كاتب السطور ترتيب الصور من خلال ربط ما كتبهُ المؤرخون لهذا الحدث مع علم البراكين مسلطاً الضوء على جزء مهم من التاريخ الجيولوجي لمنطقة المدينة المنورة ومسترشداً بآراء البروفسور جون روبيل الخبير في جيولوجية الدرع العربي والمستشار السابق في هيئة المساحة الجيولوجية السعودية، والذي أمضى أكثر من خمسة وثلاثين عاماً في المملكة من خلال إشرافه على الرحلة الجيولوجية التي نفذها النادي العلمي السعودي لمعلمي الجيولوجيا بتاريخ 10-5-1429هـ بالإضافة إلى استعانته بصور الأقمار الصناعية المختلفة والمراجع البحثية المتخصّصة في شبكة الإنترنت وما كتبه المؤرخ عبدالرحمن إسماعيل المعروف بشهاب الدين أبو شامة (599 - 665 هـ) والمؤرخ محمد بن أحمد القسطلاني بالرغم من عدم مشاهدتهما عياناً للحدث، فأبو شامة كان في دمشق والقسطلاني كان في مكة المكرمة ولكنهما كانا من أفضل المؤرخين وصفاً لهذا الحدث التاريخي.

لنقرأ ما كتبهُ المؤرخ شهاب الدين أبو شامة نقلاً عن شاهد عيان وهو يصف الحدث ونستشّف منه الحالة النفسية لأهالي المدينة المنورة وقتذاك: (ومن كتاب شمس الدين بن سنان بن عبدالوهاب بن نميلة الحسيني قاضي المدينة إلى بعض أصحابه: لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة 654هجرية حدثت في المدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة أشفقنا منها وباتت باقي تلك الليلة تزلزل كل يوم وليلة قدر عشر نوبات، والله لقد زلزلت مّرة ونحن حول حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم اضطرب لها المنبر إلى أن أوجسنا منه إذ سمعنا صوتاً للحديد الذي فيه، واضطربت قناديل الحرم الشريف، وتمتّ الزلزلة إلى يوم الجمعة ضحى، ولها دويّ الرعد القاصف، ثم طلعت يوم الجمعة في طريق الحرة في رأس أجيلين نار عظيمة مثل المدينة العظيمة، وما بانت لنا إلاّ ليلة السبت، وأشفقنا منها وخفنا خوفاً عظيماً، وطلعت إلى الأمير وكلمته وقلت له: قد أحاط بنا العذاب، أرجع إلى الله تعالى، فأعتق كل مماليكه ورّد على جماعة أموالهم، فلما فعل ذلك قلت أهبط الساعة معنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهبط وبتنا ليلة السبت والناس جميعاً والنسوان وأولادهم وما بقى أحد في النخيل ولا في المدينة إلا عند النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سال منها نهر من نار، وأخذ في وادي أجيلين وسدّ الطريق، ثم طلع إلى بحرة الحاج، وهو بحر نار يجري، وفوقه حجر يسير إلى أن قطعت الوادي وادي الشظا، وما عاد يجيئ في الوادي سيل قط لأنها كانت حصرته نحو قامتين وثلث علوها.

والله يا أخي إن عيشتنا اليوم مكدرّة والمدينة قد تاب جميع أهلها، ولا بقى يسمع فيها رباب ولا دف ولا شرب، وتمت النار تسير إلى أن سدّت بعض طريق الحاج وبعض بحرة الحاج، وجاء في الوادي إلينا منهم يسير، وخفنا أنه يجيئنا فاجتمع الناس ودخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم وتابوا عنده جميعهم ليلة الجمعة.

وأما قتيرها الذي مما يلينا فقد طفى بقدرة الله وأنها إلى الساعة وما نقصت إلا تُرى مثل الجمال حجارة، ولها دويّ، ما يدعنا نرقد، ولا نأكل، ولا نشرب، وما أقدر أصف لك عظمها ولا مافيها من الأهوال).

لقد وصف القاضي شمس الدين بن سنان الحالة النفسية لأهل المدينة المنورة وهم يواكبون الحدث، والزلازل التي حدثت هي من الزلازل البركانية الناتجة من تمدد حجرة الصهارة Magma في أعماق الأرض قبل الثوران بسبب تجمع الصهارة وعند صعودها لسطح الأرض تحدث الزلازل وتزداد درجة الحرارة للمناطق المجاورة للبركان.

لعل السبب الرئيس في حدوث هذه البراكين هو توسّع البحر الأحمر والتي بدأت في حين الميوسين حيث تتباعد الضفتين بمعدل سنتمترات قليلة في العام الواحد (بمعدل نمو أظافر الإنسان) وتدفع صحيفة شبه الجزيرة العربية باتجاه الشمال الشرقي نحو إيران وتركيا (وهذا يفسر كثرة تعرض الدولتين للكثير من الزلازل)، ويعتقد الجيولوجيون بأن مصدر بؤرة التوتر يقع في مثلث عفار في جيبوتي، حيث تقوم تيارات الحمل الدورانية Convection currents الصاعدة من أعماق طبقة الوشاح بتوسيع ذراع البحر الأحمر وذراع خليج عدن وقلقلة الوادي المتصدع في إثيوبيا وكينيا وتنزانيا.

لقد وجدت الصهارة طريقاً إلى سطح الأرض في حرّة رهاط من خلال ستة فوهات بركانية الفوهات (1، 2، 3) شكلت المخاريط الرشة Spatter Cones، أما الفوهات (4، 5، 6) فشكلت المخاريط الأسفنجية Scoria Cones. استمر الثوران البركاني لمدّة 52 يوماً في ستة انبثاقات نبضات (Pulses ) مختلفة الشدّة.

وكونت ستة نوافير بركانية نارية حمراء Red Fire Fountaining ارتفعت لعلو أكثر من 1500 قدم (457م) من طبقة الوشاح الخارجي للأرض مندفعة بضغط هائل من أعماق تراوحت مابين 160 - 200 كيلو متر، ولعل الانبثاق السادس كان من القوة بمكان أن فجّر الفوهة رقم 6أ بقطر 85 متراً ليفجرها إلى فوهة 6ب بقطر 370 متراً تقريباً وترتفع منها نافورة هائلة جداً بلغت علوها أكثر من 2000 قدم تقريباً (609م) وربما هي التي عناها مؤرخنا أبو شامة بقوله: (ثم ظهرت نار عظيمة في الحرّة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا وهي نار عظيمة إشعالها (أي ارتفاعها) أكثر من ثلاث منارات... فيها نموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه: (إنها ترمي بشرر كالقصر * كأنّه جمالت صفر). المشهد الذي أصفه للقارئ الكريم ستة نوافير نارية حمراء مختلفة الأحجام تقذف بملايين الأطنان من اللافا البازلتية لسطح الأرض بلغ حجمة 0,5 كيلو مكعب وتنفث الرماد والهباء البركاني إلى عنان السماء بارتفاعات تراوحت بين 1500 - 2000 قدم (475- 609) متر المصحوب بجزيئات من حمض الكبريتيك وبخار الماء إلى أن وصلت لطبقات الجو العليا (الستراتوسفير) Stratosphere وهي إحدى طبقات الغلاف الغازي التي تمتد مابين (10 - 50 كيلو متراً) فوق سطح البحر ويتميز بالهواء الجاف وتقل فيه الرياح وتختفي الغيوم وتصل برودته إلى -3مْ في المتوسط، وهذا ربما ما عناهُ المؤرخ أحمد القسطلاني بقوله: (فثار من محل ظهورها في الجو دخان متراكم غشي الأفق سوادهُ، فلما تراكمت الظلمات وأقبل الليل سطع شعاع النار، وظهرت مثل المدينة العظيمة من الشرق).

تعتبر هذه النوافير النارية الحمراء متوسطة الارتفاع إذا قورنت ببركان ليزوأوشيما في اليابان حيث وصلت النافورة البركانية لعلو 5250 قدماً أي مايقارب (1600 متر) تقريباً، والذي انفجر عام 1986 م.

لقد كان اتجاه اللافا البركانية مندفعة نحو المدينة المنورة وفي اليوم السادس الذي يوافق يوم السبت وبعد صلوات ودعوات أهل المدينة المنورة بنسائهم وأطفالهم في المسجد النبوي الشريف توقف انسياب الطفح على مسافة 12 كم من المدينة القديمة، وانسابت الحّرة لمسافة 23 كيلو متر إلى الشمال ثم الشمال الغربي حتى حدود مطار المدينة المنورة اليوم، كما أشار البرفسور جون روبيل.

اتضح من خلال الدراسات الجيولوجية التي قام بها (كامب وآخرون 1987 م - 1989 م)على الطفح البازلتي أنه يتكون من ثلاثة أنواع هي البازلت الأولفيني القلوي المتميزة كيميائياً، وعلى بازلت مختلط يحتوي على بلورات كبيرة من البلايجوكليز الشفاف مع بلورات أصغر من الأولوفين المغنيزي في فجوات البازلت الرمادي الناعم، والنوع الثالث هو البازلت البوتاسي الذي لا يحتوي على البلورات، وهذا يفسّر لنا النطاقات التي انبثقت منها من أعماق تتراوح مابين (160 - 200 كيلو متر) في طبقة الوشاح الخارجي Upper Mantel للأرض.

أما عن نظام القنوات الناقلة للاّفا Plumping System فيظهر أن هناك أكثر من ست قنوات مختلفة الأحجام تدفع الصهارة باتجاه الفوهات، كما أن هناك نظام شقوق وكهوف اندفعت منها، وعندما ضعفت قوة ضغط الغازات ونفذت طاقتها توقف انسياب اللافا من فوهة (1، 2، 3) أولاً ثم الفوهات رقم (4، 5) وظلت الفوهة البركانية 6ب تدفع الحمم ولم تخمد كلياً بل كانت اللافا تندفع من الأنفاق البركانية A lava tubes أسفل منها بعد أن تجمّد السطح العلوي للبركان وغطاها الرماد البركاني.

وعندما بردت الحمم على سطح الأرض شكلت نوعين من اللافا هي اللافا الحبلية المجدولة Pahoehoe lava واللافا الكتلية الخشنة aa lava بدر جة حرارة تراوحت بين (1000-1200) درجة مئوية.

تأثير انفجار بركان المدينة المنورة على المناخ الإقليمي:

مانراه يخرج من البراكين عادة هو مياه مركزة وجزئيات رماد معدني تتساقط من الجو بسرعة كبيرة أما الدخان فهو عبارة عن قطرات حامض الكبريتيك ضعيفة جداً إلا أنها تتشكل في الغلاف الجوي الخارجي عندما تتحول غازات الكبريت التي يطلقها البركان عبر عمليات كيميائية إلى حامض الكبريتيك الذي يتحول بعدها إلى ضباب رقيق أبيض.

لنقرأ ما كتبه شهاب الدين أبو شامة: (ثم ظهرت عندنا بالحّرة وراء قريظة على طريق السوارقية نار عظيمة تنفجر من الأرض، فارتاع لها الناس روعة عظيمة ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض، ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة وعظمت)..

لقد انفجر بركان سانت هيلنز في ولاية واشنطن بالولايات المتحدة في 19 مايو 1980م وحولت سحابة الدخان الكثيفة النهار إلى ليل في أغلب مدن شمال غرب الولايات المتحدة ورصد زلزال بقوة 7.5 درجات على مقياس ريختر مسبباً انهيار الجانب الجنوبي من الجبل وارتفعت سحابة الرماد البركاني لمسافة 15 ميل في طبقة الستراتوسفير خلال 15 دقيقة وحركتها الرياح لمسافة 250 كيلو متراً حاملة ملايين الأطنان من الرماد لتحول السماء الزرقاء إلى بقع رمادية.

في مثال آخر لتأثير الرماد البركاني على المناخ انفجار بركان بيناتوبو في الفلبين 15 يونيو 1991م عندما أطلق أعداداً هائلة جداً من الجزيئات المجهرية تعرف بالهباء الجوي إلى طبقة الستراتوسفير وقدّر حجم الهباء الجوي بـ 20 مليون طن من ثاني أوكسيد الكبرتيك إلى جانب كميات هائلة من الرماد وبخار الماء، لقد غطى الهباء الجوي كوكب الأرض بكامله في 15 أغسطس 1991م أي خلال شهرين فقط من الانفجار، وتركزّ الهباء الجوي على ارتفاع تراوح بين 20 - 25 كيلو متر فوق خط الاستواء، وعرف تأثير الهباء الجوي عبر مقياس أشعة الشمس القادمة إلى مركز الطاقة الشمسية SEC في جنوب كالفورنيا، وكان عام 1992م أبرد بكثير من عام 1991م.

ممّا سبق ندرك مدى تأثير الهباء الجوي الناتج من البراكين على مناخ الأرض. ويمكن لعلماء الأرصاد الجوية وعلماء البراكين متابعة تحرّك الهباء الجوي بالأقمار الصناعية كما حدث عام 2002م لانفجار بركان أثنا في صقلية بإيطاليا حيث صور القمر الصناعي تيرا Terra التابع لوكالة ناسا تحرّك الهباء الجوي البركاني خلال أيامٍ قليلة من انفجار البركان لمئات الكيلومترات ووصل إلى شمال أفريقيا، وعلى نفس الطريقة أدى ارتفاع السحب الكثيفة من الرماد والهباء البركاني الجوي من بركان الملساء التاريخي بالمدينة المنورة إلى إحداث خلل في الإشعاع الشمسي Solar Radiation بالإضافة إلى تغيير في الديناميكية الحرارية للطبقات الجوية Atmospheric Thermodynamics حيث حجبت جزءاً من أشعة الشمس وامتصت جزءاً من حرارتها مما أدى إلى برودة الجو ومشاهدة مناظر غروب وشروق للشمس والقمر غير عادية، ويمكن حساب سرعة الرياح من تاريخ شهاب الدين أبو شامة لهذا الحدث في دمشق بقوله: ( وفيها من ليلة الاثنين السادس عشر من جمادى الآخرة خسف القمر أول الليل وكان شديد الحمرة ثم انجلى وكسفت الشمس، وفي غده احمرّت وقت طلوعها وغروبها، وبقيت أياماً متغيرّة اللون وضعيفة النور). لقد وصل الهباء البركاني الجوي إلى دمشق خلال أحد عشر يوماً قاطعاً المسافة بين المدينة المنورة ودمشق التي تبلغ أكثر من 1100 كيلو متر بسرعة تصل إلى 100 كيلو متر في اليوم في طبقة الستراتوسفير Stratosphere أدى انتشار الرماد والهباء البركاني الجوي على نطاق إقليمي إلى تغيير المناخ، حيث انخفضت درجة الحرارة، وارتفعت الرطوبة وازدادت كثافة تساقط الأمطار بصورة غير طبيعية، وبالتالي ارتفاع منسوب مياه نهري دجلة والفرات في الشام وانعكس سلباً في العراق على شكل فيضانات ليس في بغداد فحسب، بل في كل المدن الواقعة على نهري دجلة والفرات بالعراق وهذا ما أرَّخهُ شهاب الدين أبو شامة بقوله: (وصل إلينا في جمادى الآخرة نجابة من العراق وأخبروا عن بغداد أنه أصابها غرق عظيم، حتى طفح الماء أعلى أسوار بغداد إليها، وغرق كثير منها، ودخل الماء دار الخلافة وسط البلد، وانهدمت دار الوزير وثلاث مئة وثمانين داراً، وانهدم مخزن الخليفة، وهلك من خزانة السلاح شيء كثير وأشرف الناس على الهلاك، وعادت السفن تدخل وسط البلدة وتخترق أزقة بغداد).

ونظم أحد الشعراء في النار الحجازية وغرق بغداد قوله:

سبحان من أصبحت مشيئتهُ

جارية في الورى بمقدار

وأغرق بغداد بالمياه كما

أحرق أرض الحجاز بالنار

قال أبو شامة: والصواب أن يقال:

في سنة أغرق العراق وقد

أحرق أرض الحجاز النار

وفي رأي كاتب المقالة أن البيت الذي نظمه أبو شامة أصّح فقد وصل البريد من بغداد فقط ولم يصل من المدن العراقية الأخرى لأن فيضان نهري دجلة والفرات شمل كل المدن الواقعة على ضفافها وقتذاك.

لقد حدثت معجزة من معجزات سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فيما يرويه الصحابي الجليل أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببصرى) رواه البخاري.

لقد عكست سحب الهباء الجوي البركاني الأقليمي المنبعثة من بركان المدينة التاريخي في طبقة الستراسفير الضوء الهائل المتولّد من الفوهات البركانية الست التي كانت ترتفع لأكثر من 1500 قدم، وأحالت ليل هذه المناطق أسفل منها إلى نهار باهت استطاع بعض الناس من خلاله قراءة الكتب في تيماء، وانعكس ذلك الضوء على صفحات أعناق الإبل في بصرى بالشام.

لنقرأ ما كتبه القسطلاني عن شدّة استضاءة هذه النوافير النارية الحمراء: (إن ضوءَها استوى على ما بَطَنَ من القيعان وظَهَرَ من التلال، وحتى كأنّ الحرم النبوي عليه شمس مشرقة، وجملة أماكن المدينة بأنوارها محدقة، ودام على ذلك لهبها حتى تأثّرت له النيران، صار نور الشمس على الأرض تعتريه صفرة، ولونها من تصاعد الالتهاب يعتريه حمرة، والقمر كأنه قد كسف من اضمحلال نوره).

وصف المؤرخ أحمد القسطلاني المدينة المنورة في الليل بأن القيعان والتلال ليست لها ظلال من شدّة أضواء النوافير النارية الحمراء وارتفاعها، ولعله وصف ما شاهده الراوي من الفوهة 6 أ التي انفجرت إلى 6ب بقطر 370 متراً وكانت الأعلى بارتفاع 2500 قدم تقريباً؛ لأنها هي المواجهة للمدينة المنورة، ووصف المدينة في النهار بأن ضوء الشمس تغير إلى الأصفر والأحمر، والقمر قد اضمحّل نوره وتلاشى دلاله على كثافة الهباء البركاني الجوي الهائل جداً ووصوله إلى طبقة الستراتوسفير.

وما كتبه المؤرخ شهاب الدين أبو شامة: (فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كتب بتيماء على ضوئها الكتب).

ويمكن من هذه المقولة التاريخية استنتاج مسار الهباء البركاني الجوي واتجاهه نحو الشمال وانعكاس ضوء النوافير النارية الحمراء بالمدينة المنورة في تلك المنطقة.

كما كتب ابن شامة: (وقد أخبرني قاضي القضاة صدر الدين على بن أبي قاسم التميمي الحاكم بدمشق في المذاكرة، وجرى ذكر الحديث وما كان من أمر هذه النار في هذه السنة 654هـ فقال: سمعت رجلاً من الأعراب يخبر والدي ببصرى في تلك الأيام أنهم رؤوا أعناق الإبل في ضوء هذه النار التي ظهرت في أرض الحجاز).

ربما قدمت نظرية (الهباء الجوي البركاني) من كاتب السطور تفسيراً معقولاً لكيفية انعكاس ضوء النوافير النارية الحمراء في المدينة المنورة ببُصرى بالشام كما أخبرنا الصادق المصدوق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كما استطاعت النظرية أيضاً تفسير التَّغيُّر السريع في المناخ والفيضانات التي اجتاحت العراق بعدها.

وأود أن أشير إلى ما كتبه بعض المؤرخين ومنهم الإمام الجليل شمس الدين أبو عبدالله محمد القرطبي المتوفى عام 671هـ في كتابه (التذكرة في أحوال الموتى وأمور الآخرة) الجزء الأول المكتبة العصرية صيدا - بيروت صفحة 349 في وصفه لنار الحجاز، ويرى ضرورة تصحيحها يوجزها في خمس نقاط:

1- قوله: (وظهرت النار في قرطبة عند قاع التنعيم بطرف الحّرة)، والأصحّ في قريظة.

2- عند وصفه اللافا البركانية أشار بقوله: (ويرى رجال يقودونها) وهذا من عين الاستحالة إذ تتراوح درجة حرارة اللافا بين (1000 - 12000مْ).

3- قوله: (وانتهت إلى قرية من قرى اليمن فأحرقتها)، لقد كان أقصى امتداد للطفح البركاني 23 كيلو متر تقريباً، ووقفت عند حدود المطار الدولي .

4- قوله: قال لي بعض أصحابنا: (ولقد رأيتها صاعدة في الهواء من جحر مسيرة خمسة أيام)، تتراوح قطر الفوهات البركانية بين (50-370 متراً) تقريباً وليست جحوراً صغيرة.

5- قوله: وسمعت أنها رؤيت من مكة ومن جبال بُصرى، وهذا لم يحدث في مكة المكرمة إذ لم يؤرخها أحمد القسطلاني وهو من مكة، ولم تر من جبال بُصرى لإنحناء الكرة الأرضية ومحدودية ارتفاع النوافير النارية، ولكن ضوء هذه النيران انعكس من الهباء الجوي البركاني في بُصرى.

وهذا التصحيح العلمي لا يقلل إطلاقاً من قدر ومكانة الإمام القرطبي رحمه الله فكتابه (التذكرة) من أجّل الكتب الدينية.

في ختام المقالة يشكر كاتب السطور المؤرخ شهاب الدين أبو شامة - رحمه الله - ويثمّن كنزه العلمي في وصف بركان المدينة المنورة التاريخي.

كما يتمنى تفعيل فكرة تحويل بركان المدينة التاريخي إلى منتزه وطني وحفظه للأجيال التي ستأتي بخمسِ مئةِ عام مثل منتزه ريد جانستون الوطني في بركان سانت هيلينز بواشنطن، ويبنى مفلاك ضخم Planetarium لعرض هذه الصور التاريخية الجميلة للسياح القادمين للمدينة المنورة كصورة من صور تنمية منطقة المدينة المنورة ثقافياً وعلمياً، ويحدوه الأمل في صاحب السمو الملكي الأمير المثقف عبدالعزيز بن ماجد أمير منطقة المدينة المنورة في تحويل هذا الحلم إلى واقع إذ ستندثر هذه المعالم التاريخية خلال القرون القادمة إن لم تحفظ.

***

المراجع:

-A ONE ?DAY FIELD EXCURSION TO NORTHEREN HARRAT RAHAT.By M.J.ROOBOL 2004

- التذكرة للإمام القرطبي الجزء الأول المكتبة العصرية بيروت.

-مواقع مختلفة في الإنترنت.

* المدير التنفيذي للنادي العلمي السعودي بجدة


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد