(الذهب الأسود)، (دموع الشياطين)، (دماء الديناصورات) وليس أخيراً (دماء الأرض)، تعددت الأسماء والأصل واحد، فعندما أظهرت الأرض ما اختزنته في باطنها منذ آلاف السنين وسُمي بالنفط انتقلت الحضارة الإنسانية إلى طور تنمية لم تشهد له نظيرا.
إلا أنه منذ اكتشافه كان وما زال موضوع احتمالية نضوبه موضوع نقاش الكثيرين، زادت حدة هذا النقاش حديثاً مع التزايد المستمر لسعر النفط الذي جعل الكثيرين يعتقدون أن السبب المباشر هو احتمالية نفاده في السنوات القليلة القادمة. فما بين مؤيد ومعارض أطرح وجهة نظري المتواضعة في هذا الموضوع الحيوي كباحث سعودي ارتبط بحثه الحالي بموضوع مستقبل الطاقة.
في البداية يجدر التنويه بأنه على الرغم من أهمية موضوع مصير النفط إلا أن النقاش فيه لا يخلو من نزعات انحيازية وميول سياسية، ناهيك عن عدم وجود إحصاءات متفق عليها مما يجعل التقريب بين جميع الآراء صعب المنال إن لم يكن مستحيلاً.
من المُلاحظ أن عالم النفط اختلف عما كان عليه في الثلاثين سنة الماضية، فليس هنالك فقط صعوبة متزايدة في اكتشاف آبار جديدة بل أصبحنا نواجه ازدياداً مستمراً لطلب الطاقة أدى إلى ضغط عالمي لزيادة إنتاج النفط. فقد أشارت بعض الدراسات المتخصصة إلى أن الطلب على النفط في الدول الصناعية سيزيد بمعدل 20% في العشرين سنة القادمة، بينما سيزيد بمعدل الضعف في الدول النامية. يخبرنا تاريخ النفط بأنه على صعيد عالمي حوالي 365 بليون برميل اكتشف في حقبة الستينيات من القرن العشرين، و275 بليون برميل اكتشف في السبعينيات ومن ثم انخفضت الكمية المكتشفة إلى 150 بليون برميل في الثمانينيات ووصلت إلى أقل من 80 بليون برميل في التسعينيات.
تجدر الإشارة هنا إلى أن قرابة 80% من النفط المتداول في يومنا هذا يُستخرج من آبار اكتشفت منذ أكثر من ربع قرن ومعظمها في طريقها إلى النضوب، وفي تقرير صادر عن شركة النفط البريطانية أنه لم يعد خفياً أن معدل اكتشاف النفط هو برميل واحد لكل 9 براميل نفط مستهلكة.
النظريات والنضوب
ظهرت عدة (نظريات) تفسّر نضوب النفط كان أشهرها نظرية (القمة القصوى لإنتاج النفط) التي قدمها العالم الجيوفيزيائي الأمريكي كينج هوبرت في عام 1956، وتتلخص هذه النظرية في أنه عندما يُنتج قرابة نصف كمية النفط المكتشف والمتوقع اكتشافه في منطقة ما، عندها يصل الإنتاج إلى قمته القصوى ومن ثم يبدأ في الانخفاض بلا رجعة. لقد طبق هوبرت نظريته على المخزون النفطي في أمريكا وتنبأ بأن يصل الإنتاج الأمريكي إلى قمته القصوى في السبعينيات، في البداية قوبلت نظريته بالشك والرفض ولكنها لم تلبث أن لاقت رواجاً واكتسبت قبولاً واسع النطاق حين صدقت توقعاته ووصل النفط الأمريكي قمته القصوى في الإنتاج وبدأ في التناقص بعدها، فمنذ بداية السبعينيات وأمريكا تستورد كميات متزايدة من النفط الأجنبي سنة بعد سنة. وتشير أغلب الإحصاءات شبه المؤكدة إلى أن المخزون الأمريكي النفطي المثبت حالياً يبلغ أقل من 30 بليون برميل وفي أوربا أقل من 20 بليونا مقابل أكثر من 260 بليون برميل في المملكة العربية السعودية، ويُعتقد أيضاً أنه على الأقل 22 دولة من أصل 50 دولة كبرى منتجة للنفط وصل بالفعل إنتاجها النفطي لقمته القصوى، أمثلة على ذلك دولة إندونيسيا التي بدأ إنتاجها النفطي في الانخفاض التدريجي في 1991 وتونس في 1992 وبريطانيا في 1999 والنرويج في 2001 والمكسيك في 2004م.
النظريات النفطية!!
العديد من خبراء النفط (المتشائمين) تبنوا نظرية هوبرت وطبقوها على إنتاج النفط العالمي، مثل كامبل وديفيز من الغرب وكذلك علي بختري من إيران، إذ يستند هؤلاء الخبراء إلى حقيقة أن القمة القصوى لاكتشاف النفط الأمريكي كان في الثلاثينيات والقمة القصوى للإنتاج تبعتها بأربعين سنة. قياساً على ذلك وبما أن اكتشاف النفط في العالم بلغ أوجه في الستينيات لذا تنبأوا بأن القمة القصوى لإنتاج النفط العالمي ستكون قرابة عام 2010 إن لم تكن قد حانت بالفعل. من زاوية أخرى وبلغة الأرقام، فإن النفط الذي أُنتج في العالم حتى الآن تجاوز 850 بليون برميل، وكمية المخزون الاحتياطي شبه المُثبتة أيضاً 850 بليون برميل، الذي لم يُكتشف بعد 500 بليون برميل فبالتالي الكمية الإجمالية للنفط تقارب 2200 بليون برميل. يؤكد الخبراء المتفائلون أن هذه الكمية الإجمالية تزيد على 3000 بليون برميل أما المتشائمون فإنهم مؤمنون بأنها لا تزيد على 1800 بليون برميل، ولو أخذنا بعين الاعتبار توقعات الطلب المستقبلي للنفط فإن نظرية هوبرت تشير أن القمة القصوى للإنتاج العالمي سوف تكون قبل عام 2015. إلا أن غالبية الخبراء المختصين بشؤون النفط يعتقدون بأنه لا يمكن أخذ نظرية هوبرت وتوقعاته التي صدقت للإنتاج الأمريكي وتطبيقها على الإنتاج العالمي لعدة أسباب منها: أن الدول الكبرى المستوردة لديها القوة السياسية والاقتصادية لمنع ذلك، أضف إلى ذلك التقدم في تكنولوجيا وتقنية النفط التي تتطور يوماً بعد يوم التي بدورها ستسهل عملية استخراج النفط أينما وُجد، وعلى الرغم من تزايد الحاجة للنفط لا ينبغي أن ننسى أن ارتفاع أسعاره أو استخدام وسائل الطاقة البديلة قد تسهم في تقليل الطلب على النفط في بعض التطبيقات وهذا قد يؤخر عملية النفاد.
السؤال يتجدد!!
إذاً السؤال يطرح نفسه مرة أخرى ما سبب ارتفاع أسعار النفط إن لم يكن النضوب هو السبب؟! صرّحت عدة دول منتجة للنفط أن تجاوز سعر البرميل الحالي المائة دولار أمريكي ليس بسبب نقص في المعروض النفطي في الأسواق بل لأسباب أخرى متعددة منها ارتفاع المضاربات في بورصات النفط وعدم الاستقرار السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط، وعدم قدرة مصافي التكرير على تلبية الحاجة الحقيقية للأسواق وانخفاض سعر صرف الدولار الأمريكي وارتفاع الطلب العالمي بسبب النمو السريع للصين والهند وزيادة الطلب في الدول الصناعية الكبرى ولا سيما في فصل الشتاء، حيث تستخدم المشتقات النفطية لغرض التدفئة. ومع ذلك لا تزال الضغوطات مستمرة على منظمة أوبك من أمريكا وغيرها للحد من الأسعار العالية التي بدأت بالتأثير سلباً في اقتصادها، لكن منظمة أوبك لم تستجب حتى الآن لمثل هذه المطالب ليقينها بأن الأسواق حاصلة على كفايتها من النفط وأن الأسباب الرئيسة لارتفاع الأسعار هي عوامل خارج إرادتها. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ليس من مصلحة الدول المنتجة للنفط استغلال الوضع الراهن والإفراط في الإنتاج بل يجب تصدير وبيع النفط بحكمة وتعقل. وبرغم ذلك افترضت التقارير الصادرة مؤخراً من وكالة الطاقة الدولية مضاعفة السعودية إنتاجها اليومي للنفط بحلول عام 2030 وذلك لمعادلة الطلب العالمي المتصاعد. كما يُذكر أيضاً أن إحدى نقاط الاختلاف بين السعودية ومجموعة الشركات الأجنبية التي كانت تشاركها شركة أرامكو حين تأسيسها أن هذه الشركات كانت ترى أن يزيد الإنتاج اليومي السعودي إلى 20 مليون برميل. وهنا تحضرني قراءة الكلمة التي ألقاها الملك فهد بن عبد العزيز - رحمه الله - عندما كان ولياً للعهد - عام 1978 حين صرح بأن: المملكة العربية السعودية كانت وما زالت تعتزم إمداد العالم بكمية مناسبة من النفط لإحساسها بالمسؤولية تجاه المجتمع الدولي ولكن بمقدار لا يتناقض مع مسؤوليتها تجاه الأجيال السعودية القادمة، إن مثل هذه النظرة بعيدة المدى لا تتفق مع زيادة معدل الإنتاج السعودي إلى 20 مليون برميل في اليوم؛ لأن زيادة تصدير النفط الخام اليوم لا تعني فقط سرعة نفاده في الغد بل تعني أيضاً إضاعة فرصة إنشاء صناعات عديدة تعتمد عليه. إلا أن مثل هذه المواقف الحكيمة والمسؤولة لا تتناغم مع المصالح الذاتية للدول الكبرى وغالباً ما تُقابل بسيل من التشاؤم والتشكيك في قدرة السعودية على استمرار التصدير.
تكهنات النضوب والتخمين
نعم، برغم الحقيقة الثابتة بأن السعودية تملك أكبر مخزون احتياطي للبترول في العالم إلا أن هنالك من يتحدى ويشكك في قدرة السعودية النفطية، وربما أكثرهم صيتاً هو الأمريكي ماثيوسمنز الذي لم يتوان عن انتهاز الفرص لنشر اعتقاده بأن آبار النفط السعودية الرئيسة آيلة للنفاد، وبأنه لن يتبقى لدى المملكة في القريب العاجل سوى كمية من النفط الثقيل الأقل جودة الذي يصعب استخراجه، حتى مثل هؤلاء الخبراء الذين عُرفوا بتشاؤمهم يعترفون بأن عملية التكهن بتوقيت النضوب هو أمر صعب لا يخلو من الاعتماد على التخمين، وهذا هو ما اعترف به سمنز في كتابه المليء بالمغالطات الذي سماه (شفق في الصحراء: صدمة النفط السعودي القادمة والاقتصاد العالمي).
وفي خضم المناظرات حول نضوب النفط فإن الحقيقة التي يجب التسليم بها أن الإنتاج العالمي للنفط سيصل لقمته القصوى عاجلاً أم آجلاً لسبب بسيط أن النفط مثل الغاز والفحم مصدر طاقة غير متجدد، فمن المتوقع أن يبلغ الإنتاج العالمي للغاز الطبيعي قمته القصوى في عام 2020، أما الفحم فتشير عدة دراسات إلى أنه بدأ فعلا في مرحلة التناقص المستمر وتراجع الجودة. فبدلاً من إضاعة طاقاتنا الفكرية في إثبات أو طعن صحة نظرية هوبرت وغيره، حري بنا أن نجتهد للتوصل إلى حلول للمشكلات التي تتفاقم علينا كالازدياد السكاني وتلوث البيئة وتغيرات المناخ والإسراف في استهلاك الطاقة والتهاون في إيجاد وسائل مستدامة تفي بحاجاتنا ولا تستنفد ما سوف تحتاجه الأجيال القادمة.
النفط هبة للبشر
لقد صدق ديفيز وغيره من المحللين عندما صرحوا بأن النفط ليس إلا هبة تعطى للبشرية مرة واحدة فقط لذا يجب استخدامه بعقلانية وحكمة. ولدولة النرويج تجربة مثالية في هذا المجال، فهي دولة منتجة للنفط أدركت أن مخزونها النفطي في طريقه للنفاد فعاجلت بالاستغناء التدريجي عن استهلاك نفطها محليا وسخرت جُل إنتاجها للتصدير حتى أصبحت من اكبر الدول المصدرة على الرغم من قلة مخزونها، الأهم من ذلك أنها سخرت إيراداتها النفطية في استثمارات الطاقة البديلة وفي توزيع مصادر دخلها حتى غدت اليوم من أكثر الدول تقدما وغنى وأصبح اقتصادها لا يعتمد كثيراً على بيع النفط، وطورت الطاقة المستمدة من المياه لتغطية حاجتها المحلية للطاقة. في دولنا العربية أمثلة مشجعة أيضاً فعلى سبيل المثال دولة الإمارات العربية المتحدة التي تنبهت إلى أن نفطها في طريقه للزوال فسارعت إلى تطوير قطاعاتها الصناعية والمالية والسياحية لتنويع مصادر دخلها وتقليل اعتماد اقتصادها على بيع النفط والغاز، وفي مطلع عام 2008 أعلنت حكومتها تخصيص مبلغ 15 بليون دولار أمريكي لدعم مبادرة (مصدر) وهي شركة حكومية رائدة تهدف إلى تطوير مصادر الطاقة المتجددة والمستدامة.
في أحد نقاشاتي الممتعة مع فريد بانكز وهو بروفسور سويدي متخصص في اقتصاد النفط قال لي: لقد قرأت وسمعت الكثير، وبحثت ودرّست لما يزيد على أربعين سنة، وأي متابع لأسواق النفط يتفق معي أن الوضع تغير عما كان عليه منذ سنوات، فدول الخليج لم تكن تحلم يوماً أن يكون لها هذا الدور الرائد بين العالم إذ قويت شوكتها وباتت قراراتها تُؤثر في اقتصاد العالم بأسره وهذا كله بفضل النفط الذي تملكه، لذا يجب عليها الاستفادة من هذه النعمة طالما ملكتها باستثمار عوائدها في التنمية التي تعود على شعوبها بالفائدة المستقبلية، لعل أهمها في الوقت الحالي صناعة البتروكيماويات والاستثمارات البشرية. ابتسمت قائلاً بثقة: هذا بالفعل ما تفعله حكومتي الرشيدة التي أدين لها بابتعاثي وابتعاث آلاف العقول السعودية لننهل من العلوم ولنسهم في مشوار تنمية وطننا.
جامعة مانشستر
Alsaleh.Yasser@gmail.com