لا يمكن أن تكتب عن بغداد الحاضر إلا ويطوف في مخيلتك ما كتبه عنها الشاعر العراقي الكبير مصطفى جمال الدين، قصيدته الشهيرة، التي جسد فيها عشقه لهذه المدينة التي تنفس بها دجلة والفرات ذات شروق شمس هي أول ما يتبادر إلى ذهنك. |
|
بغداد ما اشتبكت عليك الأعصرُ |
إلا ذوت ووريق عمرك أخضرُ |
مرّت بك الدنيا وصبحك مشمسٌ |
ودجت عليك ووجه ليلك مُقمرُ |
لله أنت فأي سر خالدٌ |
أن تسمني وغذاء روحك يضمرُ |
أن تشبعي جوعاً وصدرك ناهد |
أو تظلمي أفقاً وفكرك نيّرُ |
وفي قصيدة أخرى عن بغداد يقول: |
حدّثي بغدادُ عن ليلي إذا |
ضاقَ بالغيدِ (النواسي) مكانا |
وإذا ألهب أهليه الهوى |
فاستحال السّمرُ الحلو دُخانا |
وإذا مرتْ عليهم ساعة |
يعجزُ الحب بها عن أنْ يُصانا |
ليلةٌ خيرٌ من (الألفِ) التي |
أغْفلتْ عن (شهرزاد) السيف أنا |
ولا يمكن أن تتذكر هذا الشاعر الكبير، الذي كان من أجزل شعراء العراق المعاصرين في رأيي، وأقدرهم على السبك، لغة ومعنى، إلا وتبرز أمام عينيك قصيدته الشهيرة، التي جسد فيها بغضه (للطائفية)، والعنصرية، وهي القصيدة التي ارتقى بها فارتقت به فوق كل الآفات التي تعصف بالعراق اليوم، وتشتت شمله، وتكرس تشرذمه، قصيدته (من أمس الأمة إلى غدها) هي من أجمل ما قال، إذا لم تكن بالفعل بمثابة بيت القصيد من قصيدة، يقول مطلعها: |
رُدي لأمسكِ ينطلق منكِ الغدُ |
ما شعَّ في دَمِكِ النبيُّ مُحمدُ |
|
الخوفُ أن يُبنى فريقٌ مُسلِم |
بحُطامٍ آخرَ، مِثلهُ، يتبدَّدُ! |
والخوفُ من لقيا عَدوِّكَ شاهِراً |
لأخيكَ صارمَ حِقدِهِ فتمجِّدُ! |
والخوفُ أنَّ (العنصريّة) هَوَّمتْ |
زَمناً.. فأيقظها الدمُ المُستوردُ |
والخوفُ أنّ (الطائفية) تبتني |
أعشاشَها بينَ العُقولِ فنحمدُ |
ونطيرُ أسراباً تُرفرفُ حولها |
ونَعُب فضْلَ دمائِنا.. ونُغَرِّدُ! |
|
يا قومُ حسبُكمُ التفرقُ في المدى |
فالليلُ طاغ، والضياعُ مُعربدُ |
والطائفية - وهي أسوءُ ما سعى |
أعداءكم فيه - نُصانُ ونعضَدُ |
ويكادُ رمزُ (الطائفيةِ) وهو منْ |
تدرونَ بُغضاً للتدين يُعبدُ |
|
نحنُ العراقُ شُموخهُ وإباؤهُ |
وكريمُ ما أعطى بنوهُ وأنجدوا |
عُرُبٌ تكاد عُروقنا - مما بها |
من (دارِم) و(مجاشِعِ) – تتفصَّدُ |
سرقوا بغداد من عيني مصطفى جمال الدين، شوهوها وأعملوا فيها التخريب والتدمير، ولم يكتفوا بسرقة عشيقته (بغداد) فحسب، بل تجرأوا على ثقافة العراق، وشعراء العراق، ومتاحف العراق، وصادروها، ثم ادعوا ملكيتها، ليثبت التاريخ، كما أثبت مرات ومرات، أن (اللص) هو اللص، مهما تغيرت ملامحه، أو غيّر هندامه، سواء قدم من أعالي البحار وعلى ظهور البوارج وحاملات الطائرات، أو من ملالي قم وطهران، أو من جبال ووديان أفغانستان والقاعدة، أو من ثقافة حسن البنا وسيد قطب وطلبة (الترابي)، لا فرق... إلى اللقاء. |
|