الحلقة الثالثة:
لو أردنا أن نستعرض آثار ما خلفته الحملة الأمريكية في العالم الإسلامي بالتفصيل، لما أمكننا استيفاء ذلك بسبب عمق المآسي وكثرتها، وربما يكفي بديلاً عن كل هذا أن نعرف ما هو رأي صناع القرار الأمريكيين أنفسهم من هذه المناورات التي رفعت لواء (مكافحة الإرهاب) شعاراً لها، في حين أنها مارست الإرهاب وجلبت الدمار والخراب والفوضى لكثير من الدول الإسلامية.
في تقرير نشره الكونغرس الأمريكي قبل أيام (عرضت مضمونه وكالة الأنباء الفرنسية ونقلته العربية نت في 07 جمادى 1429هـ/ 11 يونيو 2008)، أكد الخبراء الأمريكيون ما أسموه (انتشار مشاعر مناهضة لأمريكا في العالم بمستويات غير مسبوقة، بسبب الحرب على العراق وكذلك إضفاء صفة (النفاق) على واشنطن فيما يتعلق باحترام قيم الديمقراطية التي تنادي بها).
وقالت لجنة في مجلس النواب: إن الآراء المؤيدة للولايات المتحدة تراجعت بشكل قياسي منذ 2002 خصوصا في الدول الإسلامية وأمريكا اللاتينية. وخلص التقرير إلى أن مسألة المهاجرين ومنح تأشيرات ساهمت في دعم (القناعة المتنامية في العالم الإسلامي بأن الولايات المتحدة استخدمت (الحرب على الإرهاب) ذريعة للقضاء على الإسلام).
هذا التقرير الأمريكي الجديد يكشف نسبياً جزءاً من نتائج السياسة الأمريكية الكارثية التي جرت سيلاً من الفوضى والدمار والخراب للعالم الإسلامي: في أفغانستان والعراق وفلسطين، وغيرها، سببها المعلن هو (مكافحة الإرهاب) وتخليص المنطقة من أسلحة الدمار الشامل، في حين أن كثيراً من المفكرين الأمريكيين أنفسهم يعتبرون تأمين مصادر الطاقة الهاجس الأكبر الذي يؤرق واشنطن ويدفعها إلى التحرك بعنف في كل الاتجاهات.
ونذكّر هنا بتقرير باحثين من جامعة جون هوبكنز الأمريكية حول عدد القتلى في العراق إلى سنة 2006 الذي نشرته مجلة (لانست) الطبية البريطانية أن أكثر من 655 ألف عراقي قد قتلوا نتيجة لغزو العراق واحتلاله.
لم يعد أحد من العالم الإسلامي يحب أمريكا، ولا حتى أولئك الذين تغنوا بالديمقراطية التي كانت تعد نموذجها الأرقى سوى من لا يخفى أمرهم ووصفهم، لأن الواقع كشف عن النتائج المؤلمة والدموية التي تقود إليها السياسات الفاشلة المتسترة تحت غطاء الحرية واحترام حقوق الإنسان والديمقراطية، والتي خلفت في سنوات قليلة ملايين القتلى والمشردين ودولا تغرق في التخلف والفوضى والعنف والعبثية.
هذه الحقيقة المؤلمة التي تكشّفت لأمريكا اليوم بعد سنوات الحرب والدمار، وعلى مشارف انتهاء عهدة الرئيس الأمريكي جورج بوش، جعلت زعيم البيت الأبيض نفسه يتحدث بتحسر عن الانطباع الذي لازم - وسيلازم - فترة حكمه، بوصف أنه (رجل حرب دموي لا رجل سلام).
لقد خسرت أمريكا حرب العقول وحرب النفوس في العالم، لأنها حصدت ما زرعته من ثقافة الكراهية والتمييز العنصري والتفرقة الطائفية وغيرها، ولكن ماذا ربحنا نحن الذين كنا وقود هذا الصراع الدموي ولا نزال؟ فنحن المسلمين موضوع الصراع ومسرحه ووقوده ورماده، ولسنا طرفا فيه.
للوهلة الأولى، يبدو وكأن العالم الإسلامي أصبح قطبا من أقطاب الصراع العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وذلك بسبب موجة العداء الغربي التي ووجه بها بعد اندحار المعسكر الشيوعي، في حين أن الواقع يكشف يوما بعد يوم أن المسلمين ليسوا طرفا في هذا الصراع العالمي الجديد بقدر ما هم موضوع ومكان له، بمعنى أنه يُتخاصم عليهم لا معهم، طمعا في ثرواتهم النفطية الكبيرة التي تضمن استقرار المستقبل الصناعي للدول الغنية.
ومن ثمرات هذا الصراع الذي استخدمت فيه كل الوسائل غير المشروعة المُتاحة، أصبح العالم الإسلامي اليوم - وأكثر من أي وقت مضى - عرضة لانعدام الاستقرار السياسي واختلال الوضع الاجتماعي وخطر ذوبان الثقافة الأصيلة في ثقافة أمريكا بفعل العولمة ونظام القرية الكونية. كما أنه صار عرضة - أكثر من أي وقت سابق - إلى تمييز عنصري وديني وثقافي موجه ضده، بل وحتى المواطنون المسلمون في الدول الغربية وقعوا ضحية الأحكام التعسفية والنظرات المسبقة وما صار يُسمى اليوم (رهاب الإسلام) أو (الإسلاموفوبيا).
بسبب التعسف الإعلامي والحرب الدعائية ضد المسلمين، صار كل مسلم اليوم محل شبهة وشك أينما حل وارتحل، وأصبح بفعل ثقافة الكراهية والحقد وصدام الحضارات عدوا إرهابيا مُدانا إلى حين ثبوت براءته، ولهذا يتعرض المسلمون كل يوم لحملات عدائية قوامها الدعاية الكاذبة التي تهدف إلى تشويه صورتهم والدعوة إلى رفض التعايش معهم والتضييق على مؤسساتهم الدعوية والخيرية بدعوى (مكافحة الإرهاب).
وتحول المسلمون اليوم بسبب وكالات الأنباء العالمية وشركات صنع الأفلام الأمريكية إلى دمويين، المتدين منهم إرهابي وغير المتدين مُجرم سفاح، بمعنى أن غاية الدمار تجمع بينهم، وتختلف العباءات التي تتدثر بها هذه القناعات بين فئة وأخرى.
الجرح الآخر الذي فُتح في عالمنا الإسلامي هو الجرح الطائفي، فالجميع كان يعلم أن الدول الإسلامية تحوي طائفيات دينية وعرقية متعددة، سواء داخل الإسلام، أو حتى خارجه في بعض الأحيان.
الطائفية اليوم هي الجرح العميق الذي أحدثته أمريكا في قلب العالم الإسلامي، ولهذا أصبحت كل الدول - تقريبا - تعاني من هذا الخطر الذي يفتح عليها باب الحروب الأهلية والفتن الداخلية.
فالعراق كشف عن هول المأساة وحجمها، وهو الذي تحولت بعض فرق الشيعة فيه إلى ميليشيات تقتل على الهوية، وكذا الوضع في أغلب دول الخليج العربي الذي بدأت رياح الفتنة الطائفية تعصف به، وستكون عاقبتها وخيمة لولا ستر الله ولطفه أولا، ثم الحكمة التي ينبغي أن يتعامل بها مع الموقف من طرف العلماء والسياسيين والمفكرين وحملة الأقلام ثانيا.
ولهذا فإن المعركة الأولى اليوم في عالمنا الإسلامي هي محاولة استباق الفتن الطائفية ومعرفة أمثل السبل للتعامل مع الخلافات الحاصلة بين الطوائف، من جميع النواحي، لتجنب الوقوع فريسة للتشرذم والتفرق والخلاف الذي يفتح الباب أمام الفتن التي تعصف بالمجتمعات والشعوب، وتفتح بابا للفوضى الهدامة - لا الخلاقة - التي سعى إلى تسويقها نظام البيت الأبيض الأمريكي.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة sms تبدأ برقم الكاتب 8300 ثم أرسلها إلى الكود 82244