نهاية الأسبوع الذي توفي فيه المفكر الإسلامي عبدالوهاب المسيري كنت منقطعاً عن كل وسائل الإعلام الإخبارية بحكم مناسبات اجتماعية متزاحمة، إلا أن الخبر صعقني عبر رسالة جوال وصلتني يوم الخميس 29 جمادى الآخرة 1429هـ الموافق 3 يولية 2008م، فاستحضرت تلك اللحظات المفعمة بالفائدة العلمية والمكتنزة بالثقافة الموسوعية، التي جمعتني بهذا الطود الفكري الكبير في جلسة مسائية على هامش أحد مواسم (الجنادرية) حيث تحمّل رحمه الله تعالى كل آلام المرض والجهد كونه مصاباً بسرطان الدم، فضلاً عن ازدحام وقته بفعاليات ذلك الموسم، فجاء إلى تلك الجلسة الخاصة وهو مجهد ومتعب، فكان ضيفاً خفيفاً في حضوره ثقيلاً في فكره ومكانته، حيث تحدث عن مفهومي (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة)، كما تطرق إلى قضايا فكرية راهنة هي حديث الواقع المعاصر، وتطرق كذلك لدور الفلسفات الغربية الإلحادية في تسليع الإنسان المعاصر، لقد كان يتحدث إلينا ثم يعتصره الألم، فيتوقف قليلاً ثم يعاود الحديث معتذراً، رغم أن واقع الحال والمنطق الطبيعي يقول إننا من يجب أن يقدم الاعتذار له، لكن هكذا هم أهل العلم الراسخ وقامات الفكر الحر وأصحاب المعرفة الموسوعية، وقتهم لتعليم غيرهم، وجهدهم في بحثهم، وهمهم في نهضة أمتهم، لهذا كنت ممن تطلع لمعرفة مسيرة حياة الدكتور المسيري في تلك الجلسة العابرة من شخصه وبحديثه هو، ولأنها فعلا (جلسة عابرة) فلم تكن سيرته ضمن تلك الندوة المصغرة، إذا ما قيس فيض المعلومات والمعارف التي نثرها الدكتور بمحدودية الوقت، غير أن هذه المعرفة التاريخية الحافلة بالتحولات الفكرية والمؤلفات العلمية والمواقف العظيمة، تبدو جلية في سيل الكتابات التي رصدتها وسائل الإعلام على خلفية نعيه إلى كل الأمة.
إلا أن ما يميز هذه الحياة التي نحسبها إن شاء الله في خير الإنسانية وصالح الأمة وخدمة الدين، هي مساره الفكري الأصيل وعطاؤه العلمي المميز، فلقد كان من أبرز الشخصيات العربية على مستوى العالم الإسلامي في تحولها الفكري في القرن العشرين الميلادي، حيث تأثر في بداية حياته بفكر الإخوان المسلمين، إلا أنه ما لبث أن أصبح يسارياً، فلقد وصلت به الحيرة العقلية إلى الإيمان المتحمس للماركسية في الستينيات الميلادية إلى درجة الاقتراب من الإلحاد، فانضم إلى الحزب الشيوعي وكان عمره قرابة تسعة عشر عاماً، واستمر يسارياً مخلصاً حتى منّ الله عليه بابنته (نور)، التي كانت ولادتها نقطة تحول كبرى في فكر المسيري، عندما حاصرته الأسئلة الفطرية عن خلق طفلته، فراح يبحث عن إجابة مادية وفق الفلسفة الماركسية التي طوعها لكل الأسئلة التي كانت تعترض حياته، حتى أنه يقول عن نفسه إنه وجد إجابة السؤال عن (الزواج) بأنه مشاركة اقتصادية بين الرجل والمرأة، غير أن ولادة نور دفعته إلى غابة من الأسئلة عن النفس والإنسان والكون والخلق، حتى انتهى إلى شواطئ الإيمان والنجاة بقارب الأجوبة القرآنية، فتخلص من التصور الفكري الغربي الوثني، غير أنه ارتبط به دارساً وناقداً ومبدعاً، وبهذا تحول من المرجعية المادية في رؤية الحياة ونقد الواقع إلى المرجعية الإسلامية المرتبطة بالمنابع الربانية.
يتميز المسيري بأنه لم ينشغل بالصراعات الفكرية أو السجالات الثقافية، التي طغت على النخبة المثقفة في عالمنا العربي، بل حتى مقابلاته التلفزيونية الحوارية مع الآخرين كانت تتسم بالهدوء وسماع وجهة نظر الآخر دون السعي المحموم للرد لأجل الرد، كونه يهتم بتوضيح الفكرة وإيصال المعلومة للمشاهد والمحاور، لهذا لم يكن مادة إعلامية في برامج (الصراخ الحواري) الذي يظهر في بعض قنواتنا الفضائية، لذلك كان وقته في سبيل العلم والبحث الدقيق، وتطوير نماذجه التفسيرية والتحليلية، ونقد المسلمات التي ارتهن لها العقل العربي مثل (بروتوكولات حكماء صهيون)، والخروج بإنتاج فكري راق أبرزه موسوعة (اليهودية)، حيث استطاع المسيري وضع محددات معرفية وعلمية عن الحركة الصهيونية وكيفية التعامل مها، باعتبارها مشروعاً استعمارياً غربياً في المنطقة العربية ووسط العالم الإسلامي، وأنه قابل للسقوط، وهو بهذا قدم للأمة خريطة عمل موضوعية لمحاربة الفكر الصهيوني، خاصة أنه حدد (عشر علامات) على سقوط إسرائيل منها زيادة الهجرة العكسية، تآكل المنظومة المجتمعية الإسرائيلية، انهيار نظرية الإجماع الوطني الإسرائيلي، وفشل تحديد ماهية الدولة اليهودية، وفشل تغيير السياسات الحاكمة، واستمرار فكر المقاومة، وتحول إسرائيل إلى عبء استراتيجي على أمريكا وغيرها، كذلك كتابه عن (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) الذي حدد فيه الفاصل الجلي بين العلمانيين في الفكر والحياة بشكل عام فالأولى تتعلق بفصل الدين عن الدولة، بينما الأخرى تنزع إلى فصل التعاليم الدينية والقيم الإنسانية والأخلاقية عن كل التطبيقات والممارسات الحياتية.
هذا التميز جعله مستقلاً في الفكر والتوجه والممارسة، كما انعكس على سلوكه السياسي، فرغم أنه يُحسب على التيار الإسلامي في مصر، إلا أنه لم ينسق وراء شعارات الأحزاب ورغبات الجماهير، بمعنى أن منطلقاته الفكرية ومواقفه السياسية كانت نابعة من وعيه وفهمه الواسع للواقع، وليس استجابة لهذا الحزب أو ذاك التيار، أو تأثراً بالجماهير، فكان يؤثر بالناس ولا يتأثر بهم.. رحمه الله تعالى كان بحق مفكراً كبيراً وعالماً جهبذاً وموسوعة معارف متنقلة.
kanaan999@hotmail.com