أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
واسحبوا ساعاتكم من وقتنا وانصرفوا
وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة
وخذوا ما شئتم من صور كي تعرفوا أنكم لن تعرفوا
كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء
أيها المارون بين الكلمات العابرة
منكم السيف ومنا دمنا
منكم الفولاذ والنار ومنا لحمنا
منكم دبابة أخرى ومنا حجر
منكم قنبلة الغاز ومنا المطر
هذا هو الشاعر الفلسطيني محمود درويش الذي جبل بتراب الوطن واستنشق هواء فلسطين والتشرد وعاش الجراح والأمل والحلم بالعودة، هذا هو محمود درويش الابن الثاني لعائلته المكونة من خمسة أبناء وثلاث بنات ولد عام 1941م في قرية (البروة) شرق ساحل سهل عكا. وفي عام 1948م لجأ إلى لبنان وهو في السابعة من عمره. وبقي هناك عاماً واحداً عاد بعدها إلى فلسطين متسللاً، وبقي في قرية (دير الأسد) شمال بلدة مجد كروم في الجليل لفترة قصيرة واستقر بعدها في قرية (الجديدة) شمال غرب قريته الأم (البروة).
محمود درويش لم يمت لأنه باق فينا، شعره ريشة تعزف على أوتار القلوب، محمود درويش الذي قال ملء فيه: سجل أنا عربي، وأحن إلى خبز أمي وقهوة أمي, محمود درويش كيف تنعيك النفوس والأقلام والأحبار والأفكار. أنت إنسان فريد بوطنيتك، وقصائدك، ولغتك، وقلمك، وشعرك.
أنت رمز للصمود والانتفاضة، عشت كبيراً وصامداً. ومت كبيراً وصامداً، وستبقى كبيراً وصامداً.
محمود درويش بحثت في كل قواميس اللغات لأجد كلمة تصفك يا شاعرنا العظيم فلم أجد، ولكني عشت قصائدك وزمانك الذي لا يتكرر، أنت فلسطين وفلسطين أنت، أنت مثل أمي تماماً: حملت جراح فلسطين على راحتيك وهكذا أمي فعلت، وصغتها بقصيدك فدخلت القلوب دون تأشيرة ووصلت إلى مطارات الأرواح دون طائرات، وهكذا فعلت أمي حيث حملت جرح فلسطين شرقاً وغرباً فكانت مناضلة بالكلمة والتوجيه والعمل الوطني والنضالي والتطوع ودخلت القلوب جميعها, حتى بكتها الأرض والسماء.
درويش: تنحني الأقلام خجلاً عندما تفكر أن تنعيك, فأنت مجبول بالآلام والآمال. أنت يادرويش أيها السامق في سمائي كيف تراني أخرج منك، درويش أحييت بشعرك ما قتل بدواخلنا بأيدي بائعي الضمير. درويش ياكائن الضوء الذي استطاع أن يحلق بجناحيه المنهكين في زمننا المثقل بالانكسار. الحب في زمنك يا شاعرنا العظيم ثورة على المحتلين من أجل الوطن. درويش حملت هم فلسطين وجعلتها الوسادة التي تتكئ عليها، والدموع التي تنساب بين مأقيك، وتختلج مع آهات قلبك لتولد القصيدة حاملة معها هويتك واسمك.
محمود درويش صدقني وأنت في عالم الحق ونحن في دنيا الباطل أن العين لا تدمع إلا لمن سباها، ولا ينكس العلم إلا لمن حزن الوطن لوداعه، ولا تحزن الأرض إلا لمن صانها. فيا سرب الحمام من عكا إلى الجليل كوني مع درويش فهل لا زلت تذكرين أطلاله, وياعصافير السماء أنشدي أشعاره, فكيف تموت يا درويش وكلنا إخوانك وأبناؤك وأحفادك.
قلبي يعتصر حزنا على فراقك يا نخلة فلسطين الباسقة وزيتونها وأنت القائل:
وأنت تعد فطورك فكر بغيرك
(لا تنسى قوت الحمام)
وأنت تخوض حروبك، فكر بغيرك
(لا تنسى من يطلبون السلام)
وأنت تسدد فاتورة الماء، فكر بغيرك
(من يرضعون الغمام)
وأنت تعود إلى البيت.. بيتك، فكر بغيرك
(لا تنسى شعب الخيام)
محمود درويش لم تمت نائماً على سرير المرض بل مت واقفاً صامدا ًكالأشجار تموت واقفة. فبشعرك ومواقفك البطولية صامداً لا محالة. فأنت كنز من الكلمات والشعر والكتابات، وأنت كنز فلسطين الوطني والقومي والنضالي والبطولي وأنت أحد أهم الشعراء الفلسطينيين المعاصرين الذين ارتبط اسمهم بشعر الثورة والوطن.
ففيك يادرويش يمتزج الحب بالوطن والحبيبة, أفتخر كفلسطينية بقصائدك وأذكر منها: وعود من العاصفة، قصيدة الأرض، حالة حصار, إلى أمي، بطاقة هوية سجل، في يدي غيمة الآن في المنفى، أنا يوسف يا أبي البئر, لا أنام لأحلم، قصيدة جدارية، هنالك عرس، وغيرها الكثير الكثير.
محمود درويش هو أبرز من ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرمزية فيه. حياته كتابة للشعر والمقالات والنضال حيث اشترك في تحرير عدد من الصحف. وفرضت عليه الإقامة الجبرية أكثر من مرة. وعمل في مؤسسات لبنان وانتقل إلى مصر. وعمل في منظمة التحرير الفلسطينية وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين وحرر مجلة الكرمل.
درويش أيها الباسق كالنخيل، أيها المعطاء كزيتون فلسطين كل الجوائز التي حصلت عليها لا توازي عطاءك ووطنيتك ونضالك وشعرك وقلمك.
لمحمود درويش ما يزيد عن ثلاثين ديواناً وترجم شعره إلى عدة لغات.
درويش كيف أنعيك وأنت تعيش في قلوبنا ومشاعرنا، وفي دم كل طفل فلسطيني وفي كل شبر من أرض فلسطين وأنت القائل:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل
ولنا الماضي هنا
ولنا صوت الحياة الأول
ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل
ولنا الدنيا هنا.. والآخرة
فاخرجوا من أرضنا
من برنا.. من بحرنا
من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا
من كل شيء، واخرجوا من ذكريات الذاكرة
أيها المارون بين الكلمات العابرة
لحظة صدق:
هذه القصيدة أثارت جدلاً كبيراً داخل الكنيست الإسرائيلي.
محمود درويش لم تمت فأنت باق في قلوبنا تحية لك يا نخلة باسقة ويا زيتون فلسطين وقمحها وزعترها. تحية إلى روحك الطاهرة وإننا على العهد باقون حتى التحرير ففلسطين أبداً أبداً لن تهون.
وسيلة محمود الحلبي
عضو الاتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين