عدت متعباً من العمل، وتناولت الغداء ونمت، وأفقت من النوم نشيطاً، وقلت في نفسي سيكون هذا المساء إجازة من الكتابة وسماع الأخبار ومشاهدة التلفزيون التي لا تجلب لنا إلا الأخبار غير السارة، وركبت سيارتي متجهاً لبعض الأصدقاء للتسامر معهم، وفي طريقي اليوم وصلني على الجوال رسالة، فترددت في مطالعتها لكي لا تحمل لي خبراً مزعجاً، ولكن فضولي وشكي بأن تكون من عائلتي التي تصطاف في الأردن، دفعني إلى فتح الرسالة، فإذا بها تحمل خبر رحيل الفارس محمود درويش، ففشلت خطتي، وعدت للبيت بعد قضاء وقتٍ قصيرٍ مع الأصدقاء لكي أستطلع الخبر ووقعه على الناس من خلال شاشات التلفزيون، وبعد أن استطلعت معظم القنوات، ذهبت لمكتبي لكي أقول كلمتي في رحيل فارس الشعر العربي الحديث، وصاحب الرمزية الشاهقة في الشعر: |
واتجهت يدي إلى حافظة الأقلام، وفيها قلم أسود، وأحمر، وأخضر، وأزرق، فاخترت القلم الأسود لأكتب به لأنه يعبر عن الحداد، ولما أمسكت به اهتز القلم مبدياً رفضه، فسألته عن السبب، فقال لي: الحداد على من يرحلون من هذه الدنيا ولا يتركون أثراً لهم، فكيف تعلن الحداد على من ترك إرثاً سيمتد إلى آلاف السنين؟ |
فقلت له أريد أن أعبر عن شجوني تجاهه، وأنت القلم كذلك يجب عليك التعبير، فهو فارس القلم، فرد على القلم الأسود: |
وكيف ستعبر عن ذلك؟ فقلت له أريد أن أكتب قصيدة في رثائه، فقال لي مستغرباً: |
إن كان لك صديقاً يملك بستاناً رحباً من الورود وفيه ما هب ودب من أنواع الورود، وأردت أن تزوره وتأخذ له هدية، فهل تختار أن تكون هديتك وردة؟ |
فقلت له طبعاً لا، فقال لي ومهما كتبت من الشعر فلن تصل لما وصل إليه هذا المارد، واستطرد القلم الأسود قائلاً: |
أنا أدلك على طريقة صامتة تعبر فيها عن شجونك وشجوني، فقلت له: ياريت هلا أخبرني، فقال: أمسك بي وارسم مستطيلاً بمدادي الأسود وظلله باللون الأسود، ثم حاور القلم الأخضر ليكمل لك الفكرة، فقد توقعنا ذلك منك واتفقنا على خطة لرثاء الشاعر الكبير. |
وفعلاً أمسكت بالقلم الأخضر وطلبت منه المشاركة والإدلاء بدلوه حسب ما أخبرني القلم الأسود، فقال القلم الأخضر: |
اترك بعد المستطيل الأسود فراغاً على الورقة على شكل مستطيل مساوٍ للمستطيل الأسود ليكون مستطيلاً أبيضاً، ثم ارسم بمدادي الأخضر مستطيلاً مساوٍ للمستطيل الأسود والأبيض وظلله باللون الأخضر، ثم حاور القلم الأحمر ليكمل لك الفكرة، وانقدت لخطة أقلامي مستسلماً واتجهت يدي للقلم الأحمر، فقال لي من تلقاء نفسه: أرسم بفمي مثلثاً قاعدته على حدود المستطيلات الثلاثة (الأسود والأبيض والأخضر) من اليمين، ثم ارسم ضلعين متساويين لإكمال المثلث متجهين نحو داخل المستطيلات الثلاثة ويلتقيان في المستطيل الأبيض ثم أخبرنا ماذا سينتج إن كنت ذكياً، وفعلاً رسمت المثلث، فإذا به علم فلسطين، فقالت لي الأقلام الثلاثة بصوت واحد: |
ومن بين أصواتهم انبرى القلم الأزرق محتجاً ومعلناً تصميمه على المشاركة والدموع تهطل من عينيه، فقال لي: أنا من كتب كثيراً من شعره، ففلت له وكيف ستشارك، فقال لي: |
أكتب بمدادي الأزرق كلون بحر عكا وبحر حيفا، كلمة فلسطين تحت العلم، وعلى يمينها أكتب عكا، وعلى يسارها أكتب حيفا، وهكذا فعلت. |
وذهبت خلسة عن الأقلام إلى طبشورة حمراء وبدأت أعبر عن مشاعري وكتبت على جدران غرفتي الكلمات التالية: |
يا حروف الشعر هيا أنبئيني |
عن أميرٍ ثائرٍ لا تخدعيني |
يا شجون الشعر هيا أخبريني |
عن عليلٍ بالمهاجر واصدقيني |
يا بحور الشعر رفقاً أمهليني |
علني أوفيه حقاً واعذريني |
يا قوافي الشعر صبراً استعيني |
واحملي عني كثيراً من شجوني |
يا بيوت الشعر لحناً أسمعيني |
في رثاءٍ لائق لا تخذليني |
يا رموز الشعر معنى أفهميني |
من معان كالسحاب وأمطريني |
يا رياح الغرب هلا أخبريني |
عن عليلٍ من هبوبك في جنون |
يا رياح الشرق هيا أنبئيني |
عن عليلٍ بالفؤاد من السكون |
يا ديار العرب هلا تبنيني |
عن نجوم قد توارت من سنيني |
يا فلسطين الحبيبة شاركيني |
في رثاءٍ للأمير وهدئيني |
أحمد إبراهيم الحاج |
|