يؤسس الخطاب القرآني صيغة نموذجية للتعايش البشري القائم على التسامح والسلم الأهلي {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}فكل مجتمع بحاجة إلى المجتمع الآخر .
فمن خلال هذا الآخر يتاح له فرصة استقطاب الخبرات التي يفتقدها في ذاتية ظروفه وأوضاعه، وليقدم هو بدوره للآخر خبرات حياتية مختلفة هو بأمس الحاجة إليها وفي ضوء ذلك يجري التعارف والتقاطع الواعي من موقع الحاجات المتبادلة والمفردات المشتركة وبالتالي يجري فتح أكثر من نافذة معرفية على طبيعة الشعب الآخر ينشأ جراءها علاقة إنسانية متمحورة على أكثر من صعيد ثقافي وعلمي وأمني وسياسي. الاختلاف سنة ماضية في الحياة البشرية (ولا يزالوا مختلفين إلا من رحم ربك) والإسلام دشن قواعد للتعاطي مع هذا الاختلاف والتعامل مع هذا الآخر من أبرزها: أولاً: الرؤية العقلية الناضجة تفرض علينا مباشرة حوار جاد، واعتماد جدل موضوعي، كشرط أولي تنهض عليه هذه العلاقة، وكبعد مركزي يؤسس لحياة آمنة، ويخلق مناخات مستقرة، ويولد بواعث حيوية تتيح تقارباً أفضل بين الفرقاء ويفوت الفرصة أمام قوى الصراع التي لا زالت تروم التدشين للدخول في مرحلة الاحتراب والتطاحن الصراعي؛ الاندفاع باتجاه التعرف على الآخر ضرورة جوهرية فعبر التعارف يجري تلمس معالم الآخر ووعي خريطته الذهنية، والوقوف عن كثب على حقيقته ومعرفة حجم خطورته إن كان ثمة خطورة تذكر، وتكوين صورة ذهنية متكاملة عن إيجابياته وسلبياته لكي يجري من ثم تحديد نوعية التعاطي معه. التعرف على الآخر والتعايش قبل ذلك بين مكونات المجتمع المذهبية، والتقليل من حدة الحفاوة في التعاطي مع بعض القضايا الفرعية، يمنحنا إمكانات هائلة للتعاون والبناء المشترك، ويمكننا من معاينة الحقيقة، حقيقة الآخر كما هي بلا تلبيس ولا تدليس ولا غش. التعرف على الآخر والتخلص من سوء الفهم هو ما يبدد السحب الضبابية المتراكمة، وهو الخطوة الأولى لبلورة التعاطي معه والتأسيس لعلاقة أكثر إيجابية.
عدم التعرف على الآخر أو التعرف عليه ولكن بشكل مجافٍ للموضوعية أدى ولا يزال على مدار التاريخ إلى أسوأ أنواع الصراع وأبشعها وحشية ودموية.
ثانيا: التنافس الإيجابي
والخطاب القرآني يتيح الفرص الواسعة لبني الإنسان ليدلفوا في سياق تنافسي رحب ويؤكد أن ضروب النعم الموجودة على سطح الأرض هي في متناول الجميع ومن يبادر إليها ينعم بخيراتها (والأرض وضعها للأنام) الدخول في سياق تنافسي بين بني الإنسان شأن يتيح للفرد الانعتاق من مشكلاته وتجسيد مبتغياته وتطوير وضعيته العامة؛ الآثار الإيجابية للتنافس عندما يتنعم بها الفرد في جانب من جوانب الحياة فإن ذاته تتوق إلى تعميم هذه الإفرازات وتتطلع إلى توسيعها لتشمل متباين أبعاد الحياة الأخرى.
لقد قبل الإسلام الآخر المختلف في المناطق التي يمتلك فيها القوة والامتداد على الصعيد السلطوي فأكد التعايش مع المغاير الثقافي ورسم للتعايش معه خطوطاً تعاقدية موجودة في إطار نظامه العام، لقد كانت المدينة في عهد الرسول الأكرم مزيجاً بشرياً متبايناً من حيث الدين والعقيدة ومن الانتماء القبلي العشائري ومن حيث النمط المعيشي، المهاجرون من قريش والمسلمون من الأوس والخزرج والوثنيون واليهود من الأوس والخزرج والثالوث اليهودي الذي يمثله بنو قينقاع وبنو النظير وبنو قريظة والأعراب الذين يساكنون أهل يثرب والموالي وغيرهم ومع ذلك استطاع الرسول الكريم بناء نسق تعاوني وبلورة مشترك كلي مع متباين الأنماط الفكرية، أما الآخر المتحرك في خط الظلم والعدوان فإن الموقف معه يتخذ شكلاً آخر، وينحو منحى مباين، لأنه يستنكر التعايش الناهض على توفير حق الآخر المسلم في دينه وفي وطنه فلا تعايش معه بفعل رفضه للتعايش الاجتماعي مع المسلمين.
ثالثا: التعايش مع الآخر وتجسيد العلاقة السلمية معه.
حيث يتعذر تحقيق الشهود الحضاري للأمة إذا لم نتعرف على الآخر، ونقدم أنفسنا للعالم بآلية راقية فنحن بحاجة إلى ما تفتقت عنه ذهنيته التقنية وهو بأمس الحاجة إلى ما لدينا من ثروة، ومن قيم روحية كبرى وحقائق عظمى ومبادئ أخلاقية، التقوقع على الأنا والانحباس داخل عنق الزجاجة من الإشكاليات الخطيرة التي لا تستقيم وعالم اليوم المعقد والمتسم بالتشابك وكثرة القوى المعاكسة.
الإسلام بطبيعته يعترف بوجود الأضداد {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}وينهى في الوقت ذاته عن اعتماد سياسة القمع والإكراه مع الآخر (لا إكراه في الدين) بل الإسلام يدعو إلى التعاون والتضامن مع الآخر واستحضار القيم المشتركة لدرء المفاسد وجلب المصالح والتعاطي مع الآخر بأعلى درجات التقدير بغض النظر عن معتقده وفلسفته ما لم يتقلد السلاح ويجنح للقتال؛ وصفوة القول فإن تجسيد التواصل مع الآخر ضروري لتقديم النموذج الإسلامي وإبراز ملامحه وتجلية مفاصل قسماته النقية.
Abdalla_2015@hotmail.com