القاهرة - مكتب «الجزيرة» - أحمد عزمي
برحيل سامي خشبة (69 سنة) إثر أزمة قلبية، فاجأته نهاية الأسبوع الماضي، تفقد مصر جزءاً من حيويتها الثقافية، فقد ظل الرجل ممسكاً بالقلم حتى الرمق الأخير، وذلك من خلال موقعه في جريدة (الأهرام) مسئولاً عن إحدى الصفحات الثقافية، ورئاسته لتحرير مجلة (الثقافة الجديدة) الشهرية، وحتى الموقع الذي تولاه قبيل أيام من رحيله، كمشرف على سلسلة (دراسات ثقافية) بالمركز القمي للترجمة.
ينتمي سامي خشبة إلى جيل الستينيات العربي الذي تتصدر أسماء كبيرة منه الساحة الثقافية الآن: جمال الغيطاني، إبراهيم أصلان، محمد البساطي وغيرهم، وكان قد تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة (قسم الصحافة) العام 1960، للعمل بعد ذلك في عدة صحف دار الهلال والمساء، ثم ينتقل إلى جريدة (الأهرام) بدءاً من العام 1978 وعلى مدى ثلاثين عاماً يتولى خلالها عدة مواقع إلى أن يصبح مساعداً لرئيس التحرير.
وخلال هذه السنوات مارس سامي خشبة نشاطه الثقافي في عدة مؤسسات تابعة لوزارة الثقافة المصرية، حيث انتدب رئيساً للبيت الفني للمسرح، ونائب رئيس تحرير مجلة إبداع، ورئيس تحرير سلسلة (مختارات فصول) بالهيئة المصرية العامة للكتاب، وكانت بدايته المهمة والمؤثرة فيه عمل في حياته الباكرة مع الكاتب الكبير يحيى حقي في مجلة (المجلة) ثم مراسلاً لمجلة (الآداب) البيروتية فيما بعد.
ولد سامي خشبة في بيت ثقافة وأدب، فهو ابن المترجم الراحل الكبير (دريني خشبة) أول من ترجم الإلياذة والأوديسة لشاعر اليونان هوميروس، إضافة إلى ترجماته المهمة لأعمال عدد كبير من الأدباء الروس، وعلى النحو بدأ سامي خشبة حياته شاعراً، ونشر بالفعل عدة قصائد في أوائل الستينيات، إلى أن كثف نشاطه الذهني في الترجمة والكتابة الصحافية والنقدية، التي تركزت على متابعة المسرح المصري والعربي.
وضمن مؤلفات سامي خشبة (شخصيات من أدب المقاومة في مفترق الطرق) (قضايا المسرح المعاصر) (قضايا منسية من تاريخنا الثقافي) (من حوار الشرق والغرب) (جيل الستينات في الأدب المصري) (تحديث مصر) إضافة إلى عملين موسوعيين: (مفكرون من) و(مصطلحات فكرية). وله في مجال الترجمة عدد من الأعمال الإبداعية مثل (المنسيون) لجيمس بويس و(الجزيرة) لالدوس هكسلي، بجانب ثلاثة كتب لكولن ويلسون، وكتاب هربرت ريد المهم معنى الفن، وقبيل أيام من رحيله كان المركز القومي للترجمة بمصر قد أصدر ترجمته لكتاب (الغضب الناعم).
للعنود محمد الشارخ، وهو في الأصل رسالة دكتوراه عبارة عن دراسة مقارنة بين الزاوية النسوية في العربية والإنجليزية.
ظل سامي خشبة يتمتع بحيوية نادرة طوال حياته، ولم يكن من ذلك الصنف الذي يلجأ إلى المناورة وإخفاء أخطاره الحقيقية، حتى لو اصطدم بالآخرين، فمنذ عام كانت الهيئة المصرية العامة للكتاب، تقدم في إطار نشاطها الصيفي، ندوة لمناقشة كتاب محمود شاكر (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا)، واستطاع خشبة بحيويته الفكرية أن يحول الندوة إلى مناظرة ممتعة بين أطرافها، سواء كانوا على المنصة أو بين الجمهور.
انتقد خشبه آنذاك - المنهج الذي قدمه شاكر في الكتاب، ووصفه بأنه مجرد رؤية تستند إلى أن ثقافة المجتمع واحدة، وتقوم على المعارف، معترفاً بأنه تعلم من شاكر كيف يقرأ التراث، لأن كتاباته تعطي القارئ رؤية جديدة بهذا التراث، وكيفية تفعيله، لتغيير الواقع، وتحقيق النهضة من خلال الحوار الإيجابي بين التراث والواقع.
ووصف خشبة رؤية شاكر بأنها تتجاهل المفهوم الأوسع للثقافة، التي لا تنحصر فقط في التعارف، لكنها إلى جانبي ذلك، تشمل العادات والتقاليد والأعراف والعلاقات بين البشر داخل المجتمع الواحد، أي النسيج الحي للتاريخ.
وفي ندوة أخرى عن د. لويس عوض قال خشبة إن (علاقة عوض بالتراث العربي كانت واهية وضعيفة ولم يكلف نفسه عناء قراءته، وكانت كتاباته عن الثقافة العربية كبيرة من السطحية والضعف والوهن، ومع ظهور أجيال جديدة، أكثر اعتماداً على المناهج العلمية، وأعمق معرفة بالثقافة العربية، يكون دوره قد انتهى تماماً).
وفي حفل تأبين ضحايا محرقة قصر بني سويف التي راح ضحيتها أكثر من 35 كاتباً وناقداً مسرحياً، كانوا يشاركون في أحد مهرجانات المسرح، واندلع حريق على خشبة المسرح التهم مجموعة من خيرة كتاب ونقاد المسرح في مصر، في حفل التأبين الذي أقامه عاجزاً عن السيطرة على الدموع التي انهالت من عينيه، لكنه غالب دموعه قائلاً: (إن المسؤولية عن هذا الحادث البشع سياسية واجتماعية وجنائية، وما حدث من الوارد أن يتكرر في أماكن أخرى، لذلك علينا أن نفيق ونستعد لذلك، عن طريق البحث في مكونات الشخصية المصرية، وما أصابها من ترهل في خصوص بيئتنا الثقافية).
كان عمره 20 سنة عندما انضم إلى أحد تنظيمات اليسار عقب تخرجه في الجامعة في مايو العام 1960، وفي 24 ديسمبر 1960 وجد نفسه معتقلاً مع أكثر من 700 معتقل يساري، واستمرت المحاكمة أكثر من سنة، بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، ثم تم ترحيله إلى معتقل الواحات.
وإلى أن خرج من المعتقل في مايو 1964، كانت لديه فرصة لمراجعة أفكاره، من خلال الكتب التي كانت تهرب إلى المعتقلين، وهو ما استكمله بعد خروجه من خلال مكتبة والده، التي جمعت بين جيلين سابقين: مكتبة جده وجد والده، التي كانت تضم أكثر من 7 آلاف كتاب.
في المعتقل اكتشف سامي خشبة أن (الماركسية لا تملك الحقيقة المطلقة وأن صانع الأحذية أو الإسكافي (ستالين، الذي طرح نفسه كفيلسوف، لأنه قرأ).
يقول في أحد الحوارات التي أجريت معه: (خلال رحلتي في البحث عن المعرفة، بعد خروجي من المعتقل استطعت أن أتحرر من الهوى الشيوعي، وتأكد لي أن الهوى الوحيد الذي لا بد أن أتمسك به هو الهوى الوطني، ولم يبق من تلك التجربة غير (القولون) الذي أصابني في سجن مصر، وكلما شعرت بآلامه أتذكر المعتقل).