من مقابلة أجرتها جريدة (الرياض) مع المهندس يحيي كوشك في 24-5-1429هـ يتبين أن هنالك أزمة في تنفيذ المشاريع الحكومية باعثها ضعف الإشراف على التنفيذ وتهاون المقاولين في الالتزام بمواصفات المشروع حتى مع كونها مواصفات جيدة، وكذلك هشاشة دور الاستشاري المشرف، ودحرجة أعمال التنفيذ من المقاول الرئيسي إلى مقاول من الباطن، وهذا بدوره الى مقاول آخر حتى ينتهي المشروع الى أضعف حلقة في سلسلة المقاولين.
وهذه الصورة القاتمة قد لا نراها في كل المشاريع، ولكنها ماثلة للعيان في الكثير من المشاريع الحكومية. ونعرف من معايشة الواقع أن إدارات المشاريع في الجهات الحكومية تجالد وتصبر من أجل دفع المقاولين للالتزام بتنفيذ مشاريعها من حيث المدة ومن حيث الكيفية، ولكنها في الغالب تفاجأ بما لا يسر الخاطر - وخاصة عندما يحين استلام المشروع، فهل كان عليها الانتظار حتى تفاجأ؟ هل كان بإمكان الإدارة المختصة بالمشاريع أن تراقب بدقة تفاصيل تنفيذ المشاريع - إذا كانت تعد بالعشرات وربما المئات - بالعدد المحدود من المهندسين والفنيين لديها؟ بل هل يكفي الاعتماد على ذمة مكتب الاستشاري المشرف الذي تعاقدت معه الإدارة للإشراف على المشروع، إذا كان - مثلاً - غير مطلع على العقد او مستفيدا من إطالة مدة التنفيذ أو مشغولاً أيضا بالإشراف على مشاريع أخرى؟ إن الواقع ينذر بأن جميع مشاريع انشاء البنية التحتية بل ومشاريع تشغيلها وصيانتها يمكن أن تواجه أزمة التنفيذ التي حذر منها المهندس كوشك - إذ خلت الساحة من جهة رقابية محايدة بعيدة عن محيط واضعي المواصفات والعقود والمشرفين على التنفيذ، ذلك ان المسألة تتعلق بمشاريع تكلف الدولة مئات المليارات من الريالات ويترتب على تنفيذها في وقتها المحدود وبمواصفاتها السليمة، خدمات ضرورية لمئات الآلاف من المواطنين الذين هم في انتظارها على أحر من الجمر. وهل يمكن أن يقال غير ذلك عن مشاريع المدارس والمستشفيات والصرف الصحي - على سبيل المثال لا الحصر؟
لذلك فإن حماية هذه المشاريع من خلال الرقابة والإشراف الفعال قضية وطنية استراتيجية توجب النظر في إنشاء هيئة حكومية مستقلة تختص بمراقبة تنفيذ مشاريع البنية التحتية من حيث إنشاؤها وصيانتها، فمثل هذه الهيئة ليست أقل أهمية من هيئة الرقابة والتحقيق أو ديوان المراقبة العامة او هيئة الغذاء والدواء.
ليس مطلوبا من هذه الهيئة أن تضع المواصفات - فالإدارات المختصة في الجهات الحكومية أدرى بالمتطلبات النوعية لتلك الجهات، بل المطلوب تقويمها بنظرة فاحصة قبل البدء في التنفيذ، وذلك لتدارك ما يمكن تداركه من خلل في المواصفات إن وجد، كذلك ليس مطلوبا من الهيئة أن تتولى أمر تنفيذ المشاريع الحكومية فهي من الكثرة والضخامة بحيث لا يستطيع جهاز واحد - مهما كان حجمه وإمكاناته - أن يسيطر على آلاف المشاريع العائدة لمختلف الجهات الحكومية، وإلا تحولت هذه الهيئة الى جهاز بيروقراطي ثقيل الحركة عديم الفائدة، إنما المطلوب هو أن تقوم هذه الهيئة بدور رقابي فعال يضمن كفاءة في الأداء وجودة في المخرجات.
إن إنشاء مثل هذه الهيئة لا يمثل عبئا إضافيا على ميزانية الدولة لأنها سوف تحد من الخسائر المترتبة على سوء التنفيذ او تأخيره. وسوف تكشف التلاعب في المواصفات - إن حصل، والحلقات الضعيفة في مراحل تنفيذ المشروع وسوف تعمل على وضع معايير يتم على ضوئها متابعة المشاريع ومحاسبة منفيذيها وتقويم أدائهم.
بل إن تقارير هذه الهيئة سوف تكون وسيلة لتصنيف أو إعادة تصنيف المقاولين، كما أن تقاريرها سوف تحفز الجهة صاحبة المشروع على المبادرة باتخاذ القرار الصائب في الوقت المناسب، عندما يتطلب الأمر التدخل في أي مرحلة من سير المشروع ولن تترك لها عذرا في التردد أو التجاوز أو التأجيل.
بهذه الصفة سوف تكون الهيئة عونا للجهات التنفيذية الحكومية ولوزارة المالية ولوزارة التخطيط ولولاة الأمر على تنفيذ خطط الدولة وتحقيق أهدافها - خاصة أنها تذهب الى أبعد من مجرد تسجيل نسب الإنجاز وسوف تمثل الهيئة أيضا دعما لتوجه الدولة نحو مكافحة الفساد التي أصبحت شعارا يرفع ويحتاج الى التفعيل من خلال آليات رقابية متخصصة.
ربما يجفل المسؤولون عن التنظيمات الإدارية حيث تطرق أسماعهم دعوة لإنشاء مؤسسة جديدة كهيئة الرقابة على الأشغال العامة ويرون في ذلك مزيدا من الترهل البيروقراطي فوق ما هو موجود بالفعل لكن المسألة أكبر من مجرد جهاز حكومي جديد. إذ هي في الحقيقة تقليص للترهل البيروقراطي لأنها تمثل نوعا من اللا مركزية في توزيع المهام الحكومية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فنحن نردد دائما الجملة المشهورة التي تقول: من أمن العقوبة اساء الادب، لكن في الواقع لا أحد يأمن العقوبة إلا إذا غفلت عين الرقيب.