أصحو صباحاً.. أدير عيناي في حذر ثم أقفز إلى عالمي.. الذي أرغمته على أن يكون واسع التوقعات على الرغم من كل التضييق.. إنني هنا لا أملك إلا أن أحلم ثم أدفع الحلم إلى التحقق، لكن عالمي أو ما أتحرك فيه أو حوله قد يصادر وقد ينسف في لحظات، دون أن يكون لتوقعاتي وأحلامي أي نصيب في الدفاع أو البقاء.
إنني لا أتحدث هنا من موقع النساء الأضعف بالطبع، بل إنني أتحدث عن مواقعنا جميعا كبشر.. ككائنات إنسانية ثم كمواطنين.. إننا نرغم على الدوام على أن نقف في صفوف المشاهدين السلبيين مهما قتلنا الغضب واستباحتنا الحسرة.. نسمع عن ندوة مختلفة ستقيمها جهة ما ثم يقرر شخص ما أو جهة ما إلغاءها.. نسمع عن احتفال بعيد أو مناسبة.. وتقديم بعض العروض المتنوعة ثم يستطيع شخص ما أو جهة ما القضاء على ذلك دون عناية بكل البشر المتابعين، نسمع عن مسرحية ما أو نشاط ثم يقرر من يقرر أنه لا مبرر له فيتم إلغاؤه.. بل إن كسب الرزق وشروطه ومبرراته مرهونة بالحظ والرضا وليس لاعتبارات السوق أو توافر اليد العاملة دور في كل ذلك، كما حدث في قرار منع النساء من مزاولة بعض المهن التي حاولت وزارة العمل دفعها للسوق النسائي.
أحدث ألوان المنع جاء مثلاً الأسبوع الماضي حين تم إقرار الأمر بمنع محلات بيع الحيوانات في مدينة الرياض، ومنع إخراج الكلاب والقطط من قِبل مالكيها في الشارع العام.. هكذا دون مقدمات.. آلاف من الحيوانات الأليفة.. مئات الوظائف.. ملايين الاستثمارات.. مئات آلاف من المستفيدين.. لا خيار لهم حين قرر شخص ما.. جهة ما.. أن الحيوانات في مدينة الرياض تستخدم في الإغواء ما بين الشباب والشابات وهي وسيلة جديدة ابتكرها هذا الجيل للمغازلة!!!! مدهش هذا الاستخدام والأكثر إثارة منه هو المنطق الذي تم الاستناد إليه لتبرير المنع!
من ذات المنطق الغارق في سطحيته علينا أن نتوقع منع بيع بعض أنواع السيارات التي يسرف شبابنا في استخدامها؛ للاستعراض أمام البنات وأمام زملائهم من الشباب في شارع التحلية بالرياض وفي كورنيش جدة والخبر.
ومن المنطق نفسه سنتوقع أنه وعلى الأرجح سيتم منع بيع الجوالات التي يسرف شبابنا وشاباتنا في استخدامها لإرسال صورهم وتبادل الرسائل بينهم، ومن المنطق نفسه نتوقع أن يتم القضاء على آفة الإنترنت التي انتشرت بين الشباب والشابات واستخدمها ويستخدمها كلا الجنسين كأبسط وأرخص وأسرع وسيلة للتواصل المرئي والكتابي والصوتي!!
إنه عصر المنع غير المشروط بلا منازع؟؟؟
تنطلق فكرة المنع الجماعي المطلق التي تتنهج محليا من خلفية ثقافية وعقلية، تؤمن بأن الخيارات الفردية لا معني لها وسط خيار القلة التي تعرف ما يحتاج إليه الفرد ويحتاج إليه المجموع.. هي تعرف مصلحته لأنه لا يعرف ولا يستطيع أن يدير مصالحه بطريقة آمنة.. إنها نظرية القُصَّر (بحرف الشدة على الصاد) فالقاصر طفلا كان أو امرأة أو مجتمعا هو من يعجز فعلاً عن إدارة نفسه لجنون أو عَتَه أو صغر في السن، لكن هذه الوصاية تنتهي في العادة عند بلوغ القاصر سن الرشد فمتى نبلغ هذه السن كأفراد ومجتمعات؟؟
فكرة المنع الجماعي أيضاً قد تنطلق أحيانا من قاعدة دينية أصيلة يتحفظ العلماء المسلمون عادة على طرقها إلا لحاجة قصوى، وهي قاعدة سد الذرائع التي تبنى على مفهوم أن ما قد يفضي إلى حرام فهو حرام؛ ولذا فقد يمنع شيء ليس لذاته بل لكونه قد يفضي إلى الحرام أو إلى الوقوع فيه.
المشكلة هنا وفي العصر الحالي هي تعدد المفاهيم وتنوعها واختلاف المنطلقات الفكرية والحضارية التي يتبناها الأفراد لاختلاف المستويات التعليمية والاجتماعية والاقتصادية التي يأتون منها؛ مما يعني اختلاف رؤيتهم وتفسيرهم لما يدور حولهم من أفكار حول قضايا المنع الجماعي؛ مما يعني أن ما قد يراه البعض أفراداً ومؤسسات كمبررات ووسيلة لمنع الوقوع في المضرة قد لا يعني ولا يحتمل مضرة بالمرة عند أطراف أخرى، وهنا تظهر إشكاليات التفسير فمَن له الحق في المنع ومَن عليه الأمر بالتنفيذ؟
قد لا نراها معضلة في يومنا هذا كون الغالبية من جيلنا ويا للأسي قد اعتاد عقلياً ونفسياً سياسات المنع، سواء تعلق الأمر بسياسات مجتمعية أو ممارسات سياسية أو مدنية، وتعلمنا لكي نعيش أن نتعامل مع هذه السياسات من منطلق المفروض الذي لا يمكن رده، لكننا لا نحتاج إلى مجابهتها بشكل يومي، ومن ثم فكل ما نفعله تجاهها هو التنديد بها بشدة في جلساتنا الخاصة مع التزام الصمت الجماعي المطبق عند الخروج إلى النور.. فمن يريد أن يرى بلباس المتمرد أو الرافض سواء في عين السلطة الدينية أو السياسية، ومن يريد أن يخسر الفرصة أن يتم احتمال ترشيحه لمقعد حكومي محتمل بما يحقق فخر أهله وعشيرته ويمكنه من خدمة من خدموه فأوصلوه، ومن يريد ومن يريد أخيرا أن يتم صلبه في مقاهي النت والساحات؟
يبدو الأمر مختلفا كلية مع الجيل الجديد.. إنه ليس مضطرا إلى التعامل بمنطق التضاد الخارق الذي نجحنا في تعليب أنفسنا داخله حتى أفلحنا في فقد ذواتنا. إن الجيل الجديد بكل جمالياته وجنونه يضحك ويمارس السخرية ويمتلك الوسائل التقنية لتعرية المستور وكشف أوجه التضاد واللا منطق داخل المعاملات الشخصية والعامة، ومن ثم فإن سياسات المنع الجماعي وسياسات (القُصَّر) وسياسات المنع الخشية من الوقوع في المحظور.. كلها قضايا تحتاج إلى منطق وتبرير قبل فرضها على هذه الأجيال التي تنطلق دون أن تلتفت للوراء؛ لأنها منطلقة إلى المستقبل..
هل ننطلق معهم.. أم أن غبارنا وصراعاتنا المضحكة ستظل تعتقل أيامنا، فيما يقهقه العالم علينا وهو يرى حرب الأقزام الصغيرة داخل مدن العالم الحديث؟!!