دخلت الصين يوم أمس الجمعة مرحلة حاسمة من تاريخها الحضاري الطويل. مع بدء الأولمبياد التاسع والعشرين على أراضيها تنتقل الصين إلى عالم جديد غير مسبوق. ما الذي يعنيه أن تصر الصين على إقامة الأولمبياد على أرضها الذي يكلفها حوالي عشرين بليون يورو ويعرض نظامها للانكشاف أمام وسائل الإعلام الغربية الإنسانية منها والمغرضة على حد سواء. كان بإمكان الصين أن تتجنب مثل هذا الإحراج بالاستمرار في العزلة والبقاء على مقولة نأخذ منهم ما يصلح لنا ونترك ما لا يصلح لنا على اعتبار أن الصين دولة عظمى في المجال الاقتصاد وتستطيع أن تبقى في عزلتها وعزلة شعبها وتستمر وسائل إعلامها في التغني بالأمجاد الصينية القديمة من بناء السور إلى الطب إلى عباس بن فرناسهم إلى الادعاءات التاريخية (الغرب أخذ عنا والغرب أخذ عنا) إلى آخر الأطروحات المخدرة. لكن حكماء الصين يدركون أن الأمر ليس مجموعة أغانٍ وأمجاد عفى عليها الزمن. فالصراع الحديث لا يتوقف عند حدود الصناعة والتجارة والقوة العسكرية. لا قيمة لمثل هذه الإنجازات إذا لم تكن شريكا في الحضارة القائمة. من يريد أن يعيد الماضي فعليه أن يعيد الآخرين معه لكي يعود الماضي كما هو. لا يمكن أن تعيد أمجاد ماضيك إلا إذا أخذت العالم معك إلى هذا الماضي. تقدمك في الماضي يعني تخلف الآخرين وقوتك على الآخرين في الماضي تعني ضعف الآخرين. إذا أردت أن تعود إلى الماضي فعليك أن تلغي الإنجازات الإنسانية التي تحققت طوال الفترة من لحظتك هذه إلى الوقت الذي تريد العودة إليه. الصينيون عرفوا أن هذا مستحيل. عرفوا أن التقدم يعني مشاركة الآخرين الحضارة القائمة لا الفرار من استحقاقاتها الثقافية والفكرية. الأولمبياد لا علاقة له بماضي الصين ولا علاقة له بثقافة الصين ولكنه جزء من الحضارة الإنسانية. المشاركة في المناسبات الإنسانية الكبرى والإسهام فيها وتبنيها ليس مجرد مشاركة وتسجيل حضور وليس تنازلا عن القيم الوطنية ولكنه جزء من المشاركة في تشكيل العالم والمساهمة في بناء المستقبل.
سلطت وسائل الإعلام الغربية (لا أعتقد الصهيونية من بينها) أضواءها على قضية التبت وحقوق الإنسان وغيرها من القضايا التي تتعارض رؤيا السلطات الصينية مع الغرب في فهمها وأسلوب إدارتها. شكلت هذه الأضواء إحراجا للصين ولكن هذه الأضواء بقدر ما أحرجت الصين ساهمت في وضع الصين ضمن المنظومة العالمية وجرت الناس إلى الاطلاع والتعرف على الصين الحديثة وفي نفس الوقت ستساهم هذه الحملات المغرضة في تطوير مفهوم الصين (نفسها) في ما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق الأقليات فالتطور نحو مزيد من التسامح الإنساني هو تطور أكثر أمنا وأكثر رخاء وليس التخلي عن مفاهيم بائدة عملية مؤلمة إلا لمن يعتاشون على هذه المفاهيم ولكن الصين كانت قد رفعت شعارا حضاريا حاسما يقول: (نحترم الماضي وتراثنا ونجتث منه ما يعيق تقدمنا).
فاكس 014565576
Yara.bakeet@gmail.com